بالأمس زار أحد الأصدقاء المخضرمين وادي دربات، وتاقت نفسه إلى صورة دربات التقليدية التي يعرفها منذ ستين سنة، وتذكر أمسيات الصرب الجميلة بما تحفل به من أفراح وابتهاجات، ينقشع الضباب وتصفو السماء وتتخلص الأرض من مياه الأمطار ويكتمل اخضرار الأرض وتعود الطيور والكائنات لتحتفل، يحتفل المزارعون بالحصاد ويحتفل الرعاة بالخطلة، وترتاد الإبل والأغنام الوديان والهضاب، وتخرج الأبقار ترعى بالنهار بعد أن تتلاشى حشرات الخريف التي كانت تمنع خروجها بالنهار خلال فصل الخريف. تستعيد الشواطئ أناقتها وينحسر البحر إلى حدوده الطبيعية فتصبح الشواطئ الفضية مهيأة للصيد والرياضة وقضاء الأوقات الممتعة. في هذا الموسم يعيش جميع الناس حالة اكتفاء ورخاء يتقاسمون الثمار والحليب والألبان، ويفيض الإنتاج ويزيد الخير، فهو موسم الرخاء والمزاج والطرب، حيث تقام احتفالات المشعير في الوديان وتلقى الأهازيج والزغاريد احتفالًا وابتهاجًا بالربيع.
يتحول نشاط الناس وتفاعلهم مع الصرب إلى لغة كونية فريدة تردد الكهوف والأشجار والوديان والشعاب أصداءها؛ فتخلق منها اهتزازات أثيرية ترتاح لها الأرض وتأنس لها الطبيعة على اختلاف مُكوِّناتها من كائنات وأشجار.
إنَّه موسم الصرب، موسم الحصاد، والرخاء والفن والصفاء، ففي هذا الموسم تعود ثقافة الخطار، حيث يتجمع شباب من مختلف مناطق محافظة ظفار يجوبون الوديان والهضاب ويرتادون التجمُّعات السكنية، فيلقون الترحاب وكرم الضيافة، ويتحقق التواصل وتنشأ علاقات ودية بين الأُسر والعشائر ويتناقل السكَّان عادات بعضهم البعض، وينشدون الأشعار والأهازيج، يقضي الناس أوقات المساء الجميلة على الهضاب الخضراء وفي ساحات الوديان والشعاب يحيطهم حفيف الأشجار ونمنمات النسيم الصربي الجميل، ورائحة الأزهار الطبيعية، التي تدغدغ الطرب فيحرك الكبار والصغار لتأدية فن النانا والمشعير التي تبوح بها قرائح الشعراء في هذا الموسم، يؤدونها كطقوس اجتماعية ترافق خطلة الإبل.
عاد ذلك الصديق مستاء محبطًا، وغرد في جروب (الواتساب) الذي ينشر فيه خواطره ناعيًا الماضي الجميل، خصوصًا عندما رأى دربات وقد تحوَّلت إلى أماكن سياحية، تمتلئ بوسائل التسلية، من قوارب ومن خيام ومقاهٍ، وتغيَّرت ملامح الوادي الذي ارتبطت جَمالياته بفصل الصرب، قال له أعضاء المجموعة إنَّ الماضي لن يعودَ والعادات تتغير، ودربات اليوم هي دربات الأمس ولكنها يمكن أن تستقبلَ الصرب بثوب جديد، وأن تستمرَّ في إقامة المناسبات التراثية والترفيهية والسياحية بصورة أكثر تنظيمًا وأكثر جاذبية، ومثلما كان هناك موسم خريف ظفار، فإنَّه بالإمكان إقامة موسم صرب ظفار، ليس للسياحة المحلِّية فحسب، بل يمكن تكييف المكان لتنشيط السياحة الطبيعية والبيئية بما يرافقها من مؤتمرات وندوات، فظفار هي عروس جميع الفصول وهي ـ كما يَعدُّها كبار السِّن ـ صورة للجنة التي يَعدُ الله بها عباده المؤمنين.
إنَّ المكان لن يتغيرَ وكذلك الفصول لن تتبدلَ، فقط عقلية الناس هي التي يمكن أن تتجدَّدَ، وتستوعبَ الموروث وتضعَه في قالب أنيق وجميل بروحه الأصيلة التي يأنس لها الإنسان ويعبِّر بها عن هُوِيَّته ورسالته.



د. أحمد بن علي المعشني
رئيس أكاديمية النجاح للتنمية البشرية