كثيرًا ما نقابل حالات صحيَّة صعبة بكُلِّ ما تحمله من تعقيدات صحيَّة ونفسيَّة وأحيانًا اجتماعيَّة. وهنا حقيقة لفَتَني موضوع تلك الحالة والتي صاحبتها تعاني من فقدان الشَّهيَّة العصبي لأكثر من عقدَيْنِ من الزمن، حيث انخفض وزنها إلى وزن طفل صغير. ولأكونَ دقيقًا ففقدان الشَّهيَّة العصبي هذا هو اضطراب في الأكل يتميَّز بانخفاض وزن الجسم بشكلٍ غير طبيعي، والخوف الشديد من زيادة الوزن، وإدراك مشوَّه للوزن. ما أقصده هنا أنَّ هؤلاء الأشخاص المصابِين بفقدان الشَّهيَّة يُولُون أهمِّية كبيرة للتحكُّم في وزنهم وشكلهم، وذلك باستخدام مجهود عالٍ بطُرقٍ مرهقة تصل إلى التدخُّل بشكل كبير في حياتهم. من ناحية أخرى قَدْ يبدو علاج فقدان الشَّهيَّة، الذي يتميَّز بالتجويع الذَّاتي وعدم القدرة على الحفاظ على وزن مناسب للجسم، بسيطًا إلى حدِّ السَّخافة ظاهريًّا: كُلُّ ما عليك فعله هو تناول الطعام واكتساب الوزن. والحقيقة أنَّ تلك المريضة والملايين الآخرين ربَّما والمصابِين باضطرابات الأكل قَدْ سمعوه مرَّات لا تحصى. وصدقًا المُشْكلة هي أنَّ الأمْرَ ليس بهذه البساطة أبدًا ـ كما يظنُّ البعض! ـ فتلك المريضة دخلت مرَّات كثيرة المستشفى بسبب انخفاض وزن الجسم، أو اختلال توازن الأملاح الناجم عن الجوع أو القيء الذَّاتي. وهكذا ـ سبحان الله ـ يزداد وزنها في المستشفى، ولكن بمجرَّد خروجها من المستشفى تَعُودُ على الفور إلى طرقها القديمة وتفقد الوزن القليل الذي اكتسبته. وهكذا، لأكثر من عقدين ظلَّت تلك المريضة عالقة بشكلٍ يائس وغير قابل للشِّفاء.
ولعلَّ أحد أسباب هذا الاضطراب قَدْ يكُونُ أنَّ البالغين ببساطة كانوا أكثر مرضًا لفترة أطول. ما أعنيه هنا أنَّه كُلَّما طالت مدَّة إصابتك بفقدان الشَّهيَّة، أدَّى فقدان الشَّهيَّة إلى حدوث تغيُّرات فسيولوجيَّة في الجسم والدماغ والتي بدَوْرها تخلق دَوْرة ذاتيَّة الاستدامة. أنت تفعل ذلك اليوم لأنَّك فعلتَ ذلك بالأمس! بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ العديد من الأشخاص الذين يعانون من فقدان الشَّهيَّة العصبي لا يدركون أنَّهم مرضى في الواقع. بل وأحيانًا يتوقف المرضى عن العلاج إذا أصبح الأمْرُ صعبًا، وهذا ـ للأسف ـ ما يحدث غالبًا؛ لأنَّ تحدِّي السلوكيَّات المرتبطة باضطرابات الأكل من الممكن أن يخلق موجات عارمة من القلق. وـ إن لَمْ أبالغ! ـ غالبًا أيضًا ما يؤدِّي اضطراب الأكل المزمن طويل الأمد إلى تنفير الأصدقاء والعائلة، وهم نَفْس الأشخاص الذين يميلون إلى دفع أحبَّائهم المرضى إلى العلاج ودعمهم خلال عمليَّة التعافي!
وربَّما ما أريد إيصاله هنا، أنَّ فقدان الشَّهيَّة لا يتعلق بالطعام. بل هي طريقة غير صحيَّة ومهدِّدة للحياة أحيانًا لمحاولة التغلُّب على المُشْكلات العاطفيَّة. لذلك هذا الاضطراب يشمل علامات وأعراضًا جسديَّة، نذكر مِنْها ـ على سبيل المثال ـ فقدان الوزن الشديد، مع أرقٍ يصاحبه دوخة أو إمساك وألَمٌ في البطن. لكن ما قَدْ نلاحظه واقعيًّا هي تلك الأعراض السلوكيَّة لفقدان الشَّهيَّة ومحاولات إنقاص الوزن عن طريق تقييد تناول الطعام بشدَّة من خلال اتِّباع نظام غذائي أو الصيام، وممارسة الرياضة بشكلٍ مفرط إضافة إلى القيء الذَّاتي للتخلص من الطعام، والذي قَدْ يشمل استخدام المسهِّلات.
المثير للاهتمام، أنَّ دراسة تابعت النساء اللاتي تعافين من فقدان الشَّهيَّة العصبي، ووجدوا مستويات عالية وبشكلٍ غير عادي من الناقل العصبي السيروتونين في السائل النخاعي. ويعتقد أنَّ هذه المستويات كانت موجودة أيضًا على الأرجح قبل بداية فقدان الشَّهيَّة. بطبيعة الحال، يدرك الجميع أنَّ انخفاض مستويات السيروتونين يرتبط بالاكتئاب، إلَّا أنَّ مستويات السيروتونين المرتفعة ليست جيِّدة أيضًا! خصوصًا وأنَّها تخلق حالة من القلق المزمن. الأهمُّ من ذلك أنَّ معظم المصابِين بفقدان الشَّهيَّة كانوا يعانون من اضطراب القلق قَبل أن يبدأَ اضطراب الأكل لدَيْهم، والأكثر شيوعًا القلق الاجتماعي والوسواس القهري. لذلك أجزم هنا وبشكلٍ حقيقي، أنَّ هذا القلق يجعل بعض النَّاس أكثر عرضة للإصابة بفقدان الشَّهيَّة. لذلك وعلى عكس الأفراد الأصحَّاء، والذين يتمُّ التحكُّم في تحديد ما يجب تناوله وكميَّته من خلال مجموعة متنوِّعة من العوامل، بما في ذلك ما هو متاح، ومدى الإعجاب به، ومدى جوع الشخص. في حين أنَّ حالة فقدان الشَّهيَّة العصبي يكونون عمومًا ـ إن استطعت القول ـ أكثر حساسيَّة للعقاب (إزالة شيء ممتع) من المكافأة!
بالتَّالي، كان من الجيِّد أن نعيَ، ويدركَ أيضًا ذلك المريض بفقدان الشَّهيَّة العصبي أنَّ هنالك مضاعفات عديدة، خصوصًا وأنَّه في أشدِّ حالاته، يُمكِن أن يكُونَ قاتلًا. ولعلَّ أهمَّ الأمثلة لتلك المضاعفات هي: عدم انتظام ضربات القلب أو خلل في توازن أملاح الجسم، هشاشة العظام، وزيادة خطر الإصابة بالكسور، إضافة إلى مشاكل في الجهاز الهضمي. ناهيك عن الاكتئاب، والتقلُّبات الشخصيَّة، واضطراب الوسواس القهري، حتَّى الوصول إلى إيذاء النَّفْس والأفكار الانتحاريَّة!
ختامًا، لا توجد طريقة مضمونة للوقاية من فقدان الشَّهيَّة العصبي. قَدْ يكُونُ أطبَّاء الرعاية الأوَّليَّة في وضع جيِّد لتحديد المؤشِّرات المبكِّرة لفقدان الشَّهيَّة ومنع تطوُّر المرض الكامل. على سبيل المثال، يُمكِنهم طرح أسئلة حَوْلَ عادات الأكل والرضا عن المظهر أثناء المواعيد الطبيَّة الروتينيَّة. ولكن ـ وللأسف الشديد ـ العديد من الأشخاص الذين يعانون من فقدان الشَّهيَّة لا يريدون العلاج، على الأقل في البداية. خصوصًا وأنَّ رغبتهم في البقاء نحيفين تتجاوز المخاوف بشأن صحَّتهم. لذلك ـ وبشكلٍ شخصي ـ أقول إنَّه: إذا كان لدَيْك شخص عزيز عليك تشعر بالقلق عليه، حِثّه على التحدُّث إلى الطبيب. وإذا كنت تعاني من أيٍّ من المشاكل المذكورة أعلاه، أو إذا كنت تعتقد أنَّك قَدْ تكُونُ مصابًا باضطراب في الأكل، فاحصل على المساعدة!


د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]