لقد علم ولا يزال وسيظل رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) البشرية جميعًا في هجرته المباركة الموفقة المرتبة ترتيبًا تكنيكيًا نادرًا، يكتشف فيها العالم بأثره أشياء جديدة كلما غدا عليها أو راح، فإنها مدرسة متجدد علمها، موفورة دروسها، متوالدة فوائدها، تتكاثر عبرها وعظاتها، إنها حقًّا بستانًا كلما مرَّ عليه الزمان كلما كثر ثمرة وازداد نتاجه.أيها القراء الأكارم.. إن هجرة رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) تميزت بكل أنواع التميز والدقة والإحكام، على من أنها لم تكن بدعًا من الرسل، فهجرة النبي (صلّى الله عليه وسلم) امتداد لهجرات من قبله من المرسلين، واقتداء بسنة الأنبياء السابقين، فكلنا يعلم هجرة نبي الله إبراهيم خليل الرحمن، وموسى وداود (عليهم السلام)، ولا يزال مكتوبًا في التوراة، وقد تحقق نصر الله تعالى للنبي الكريم بعد الهجرة، مثلما كان يحدث للأنبياء السابقين من نصرة وتأييد، وعلى الرغم من تلك الدقة وذلك الإحكام إلا أن هنا الكثير من المفاجآت التي طلت برأسها أثناء أحداث الهجرة، وكان من الممكن أن تكون تلك المفاجآت عقبات تهدم بنيان ذلك التخطيط، ولكن الله سلّم، وتحسبًا لهذا المفاجآت القوية المزلزلة(فقد أخذ رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) بالحيطة والحذر، والتخفي عند الخوف، مع أن الله عز وجل أقام شريعته في هذه الدنيا على مقتضى الأسباب ومسبباتها، وإن كان الواقع الذي لا شك فيه أن ذلك بتسبيب الله تعالى وإرادته، لأجل ذلك، استعمل الرسول (صلّى الله عليه وسلم) كل الأساليب والوسائل المادية التي يهتدي إليها العقل البشري في مثل هذا العمل، حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتدّ بها واستعملها). وأول ما كان من تخطيط قابلته مفاجأة: أولًا: تخطيط اختبار أبي بكر والمفاجآت المقابلة على ذلك: حيث إن أبرز ما يظهر لنا من قصة هجرته (عليه الصلاة والسلام)، استبقاؤه لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ دون غيره من الصحابة كي يكون رفيقه في هذه الرحلة. وقد استنبط العلماء من ذلك مدى محبة الرسول (صلّى الله عليه وسلم) لأبي بكر وأنه أقرب أصحابه إليه وأولاهم بالخلافة من بعده، ولقد عززت هذه الدلالة أمور كثيرة أخرى مثل استخلافه(عليه الصلاة والسلام) له في الصلاة بالناس عند مرضه وإصراره على ألا يصلي عنه غيره، ومثل قوله في الحديث الصحيح:(لو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا)، ولقد كان أبو بكر (رضي الله عنه) ـ كما رأينا ـ على مستوى هذه المزية التي أكرمه الله بها، فقد كان مثال الصاحب الصادق بل والمضحي بروحه وكل ما يملك من أجل رسول الله (صلّى الله عليه وسلم)، ولقد رأينا كيف أبى إلا أن يسبق رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) في دخول الغار كي يجعل نفسه فداء له (عليه الصلاة والسلام) فيما إذا كان فيه سبع أو حية أو أي مكروه ينال الإنسان منه الأذى، ورأينا كيف جنّد أمواله وابنه وابنته ومولاه وراعي أغنامه في سبيل خدمة رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) في هذه الرحلة الشاقة الطويلة. ولعمري، إن هذا هو الذي يجب أن يكون عليه حال كل مسلم آمن بالله ورسوله، ولذا يقول رسول الله (صلّى الله عليه وسلم):(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)(فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، ص: 137).إخوة الإِسلام..(وتواعدا أن يخرجا ليلاً إلى غار ثور، فيمكثان ثلاث ليال وذلك من تمام إحكام الخطة، ورجاء النجاة والسلامة)(سبل السلام من صحيح سيرة خير الأنام ـ عليه الصلاة والسلام 1/ 223)، ويقول صاحب (السيرة النبوية ـ راغب السرجاني 14/ 5):(مكث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ يخططان لأمر الهجرة، فقد وضعا خطة بارعة متقنة، بذلا فيها كل طاقة وفكر، وعملا حسابهما لأشياء كثيرة، ومنها أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيبقى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في بيت الصديق ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ جزءًا من الليل، يعني: لن يهاجرا مباشرة، وسينتظرانإلى أن تهدأ الحركة في مكة تمامًا، في ذلك الوقت سوف يأخذان الراحلتين وينطلقان من بيت الصديق ـ رضي الله عنه ـ وأنهما لن يخرجا من باب بيت الصديق بل من فتحة في خلف البيت لاحتمال وجود مراقبة على باب البيت؛ فقد يتوقعون هجرته معه، فهو الصاحب الأول للرسول ـ صلى الله عليه وسلم). كل ذلك جميل إذن ما هي المفاجآت المقابلة لذلك؟ سنتناولها ان شاء الله في اللقاء القادم.محمود عدلي الشريف[email protected]