في قصة إبراهيم (صلى الله عليه وسلم) مع ولده إسماعيل (عليه السلام) دروسٌ قيّمة، وعظاتٌ بالغة، ومقاصدُ سامية، ومعانٍ ضافية، نوجز أهمها فيما يأتي:أولًاـ الأدبُ الجَمُّ، والتسليمُ المطلقُ والإذعانُ التامُّ لله: وأول تلك الدروس هو رقة الأدب، وكمال الخلق بين الأب وابنه، وكذلك وفور الإخبات التام لله، والتسليم المطلق لعظمته، والإذعان الكامل لمشيئته ـ جلَّ وعلا ـ والمسارعة بتنفيذ أمره، والتفاني بطاعته: والدًا، وولدًا، قال الله تعالىفي هذا الشأن:(وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ، رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ، فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ، وَتَرَكْنَاعَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ،سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ، وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) (الصافات 99 ـ 113).وكما نرى في كلمات الآية وألفاظها، إنها الرقة متناهية في الخلق الكريم حيث يجب أن يكون التعامل بين الأب وأبنائه، الأب يقول:(يا بنيَّ)، والتصغير هنا للتدليل والمحبة وإظهار المودة الفطرية:(وألقيت عليك محبة مني)، أي: يا حبيبي، ويا لفق قلبي، ويا فلذة كبدي، ثم بعد أن جذب عقله، وروحه، وفكره، وكله، قال له باختصار وإيجاز الطلب الذي رآه في رؤياه ومنامه:(إني أرى في المنام أني أذبحك، فانظر ما ترى)، طلب موجز، وواضح، وهي رؤية منامية، ورؤيا الأنبياء صدق، وصادقة، والابن قد تربَّى سلفًا على ذلك، ويدرك كلَّ حرف قاله له والدُه، وتأكيد الجمــلة بالأداة:(إن) من جانب، واستعمال الفعل الذي لا شك معه(وهو الفعل أرى المنامية)، والمصدر المؤول المؤكد بالأداة (أن)، كلُّ ذلك فهمه الابنُ فهمًا تامًّا، ومضى في تنفيذه دونما تأخر، أو تلكؤ، أو خوف،ثم عبارة:(فانظر ماذا ترى)، أدبٌ جمٌّ من الأب لابنه البار إسماعيل، فأعاد الأمر بين يديه لينظر فيه؛ اختبارًا من أبيه له، وبين الفعلين:(أرى وترى) جناس غير تام، والأولى منامية حلمية، والثانية علمية، أو عرفانية، والسؤال إنما هو اختبار للابن، ولعقيدته، وخشيته من ربه، وإخباته لمولاه، أيتوقف أمام مطلوب الله؟، أم يشارع بتلبية طلب أبيه الذي هو في الأصل مطلوب الله؟؛ ليمتحنهما معا في قضية الحب، والولاء، والبراء، والوقوف عند حدود الله، وتكاليفه، والله تعالى أراد بذلك الطلب أن يُخليَ قلب إبراهيم(عليه السلام) من التعلق بأقرب الأقربين له، والتخلي للدعوة، ولنشر الدين الحنيف، وتقديم ما يحبه الله على ما تحبه النفس، أو تكره عملَه؛ ابتغاء مرضاة الله، فهو اختبار شديد، بل أعظم اختبار في تاريخ الإنسانية، أن يُطْلَبَ إلى نبيٍّ ذبحُ ابنِه الذي أحبه، ورُزِقَ به على كِبَرٍ، وطعنٍ في السن، وكانت امرأته عجوزًا، طاعنة في السن كذلك، ليست محل حمل، ولا في ذهنها رضاعة، حكى ذلك القرآن الكريم في سورة هود، فقال:(وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ، فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ، وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) (هود 69 ـ 72)، وهنا أسند فعل الرؤية إلى ابنه إسماعيل؛ لينظر كيف يجيب؟!، وماذا يراه من تصرف؟!، ويرى كيف كانت التربية الإيمانية له، وما نتائجها الواقعية؟!، وحذف مفعول الرؤية:(ترى)، فكان الجواب من ابنه إسماعيل حازمًا، وسريعًا، ومبيِّنًا صدق التربية، وحرارة الالتزام، وجمال الإيمان، وحسن التربية، فأجاب يقوله:(قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، أجاب في التو، وعلى الفور إجابة ظهر منها الخلق الحسن، ونبل التربية، وكمال الاعتقاد، وسلامة الفهم، وخرجت بكل أدب، ووقار، وتناغم في الود بين الأصل، والفرع، والأب والابن:(يا أبت افعل ما تؤمر)، فهم الابن الكريم أنه أمر إلهي، وأنه وحْي، وأن رؤيا الأنبياء صادقة، فقال:(افعل ما تؤمر)، ولم يقل:(افعل ما رأيت في منامك)، أو اعترض، أو تَزَحَّرَ لسانه، أو خاف جنانه. لا، لم يحدث شيء من ذلك، وقال:(افعل ما تؤمر)، نسي نفسه، وكأنه قد فنيت ذاته، وذابت نفسه، فلم يقل:(افعل بي ما تؤمر)، وإنما نسي ذاته، وجنَّب روحه مجرد التفكير في النقاش، وسلَّم لله نفسه، ولم يُرِدْ، أو يُبْدِ أيَّ تأخر، أو يتكلم بأيَّ نقاش في الأمر، وإنما قال:(يا أبت افعل ما تؤمر)، وأردفها بما يؤكد إذعانه، وخضوعه، وتسليمه، وفصاحته، وبيانه، فجاء بـ(السين) لا سوف، أي بالمستقبل العاجل القريب، أيْ: عند الذبح ستجدني صابرًا، محتسبًا، مستسلمًا لله أن أُذبَحَ لله؛ إرضاء، وتنفيذًالرب العالمين، وجاءبفعل الوجود، أي: أفعال اليقين، وليس الظن:(ستجدني)، وأردفها بجملة المشيئة:(إن شاء الله)؛ لأنه لا يعلم الغيب، وما يخبئه للإنسان، و(من الصابرين)، وليس من الفارين، أو الهاربين، نه منتهى التسليم من الأب، والابن لله، ومنتهى الرقي في التعامل الخلقي النبيل بينهما:(يا بنيَّ ـ يا أبت).إن الإيمان الحق يدفع المرء إلى حسن الخلق، ورقة القول، ودماثة اللفظ، وإلى كمال الإخبات، والتسليم، وتمام الخضوع، وكمال الخشوع، ونواصل تلك الدروس في اللقاء القادم، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.د.جمال عبدالعزيز أحمدكلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية[email protected]