فَوَا عجبًا كم يدَّعي الفضلَ ناقـص، ووا أسفًا كم يُظهر النقصَ فاضلُ.. لَمْ أجد أكثر الكلمات تعبيرًا، بما يحاك بَيْنَ أحفاد آدم وحوَّاء، خيرًا من كلمات أبو العلاء المعرِّي، في وصف الحالة التي وصلت إليها العلاقات الإنسانيَّة وخصوصًا بَيْنَ الأزواج؛ جرَّاء هذا السرطان الذي انتشر أسرع من النار مع الريح، وهو مقاطع «التيك توك» التي يبثُّها محبُّو «الترند» وارتفاع نسبة المشاهدة، جامعو المال، وهم يروِّجون لأنفسهم وأقوالهم على اعتبار أنَّهم أصحاب الفكر والتجارب والخبرة وإعطاء النصيحة. وفي الحقيقة هُمْ آخر مَن يصلح لتقديم النُّصح للآخرين؛ لأنَّ (فاقد الشيء لا يعطيه) نظرًا لعدم تخصُّصهم علميًّا وفكريًّا، وقلَّة الخبرة لدَيْهم، وجهلهم باختلاف التكوين الإنساني، سواء النَّفْسي أو العاطفي أو العمري أو البيئي، وأنَّ الذي يصلح في الحياة لزيد لا يصلح لعمرو، فيكون الأثر المدمِّر من أقوالهم تكسيرًا للسياقات والتاريخ والرصانة، لصالح الاجتزاء واللحظيَّة والسطحيَّة. باختصار شديد، انتشرت في الحقبة الأخيرة وبفضل الارتكان على الآخرين في تسيير أمور حياتنا، وإعطائهم المساحة في السَّماح بإدارة شؤون حياتنا والتحكُّم فيها، وجدنا رجالًا ونساء يستمعون لنصائح مَن يدعون أنفسهم بالصفوة وأهلِ الخبرة، وأنَّهم الأحقُّ بالاستماع إليهم وأخذ النصيحة مِنهم، فأصبحت الحياة الزوجيَّة بأسرارها وخصوصيَّتها تصلح كمادَّة للحياكة التي تقصفنا بها مدافع الجنود المأمورين، في زي علماء الكلام، وليسوا علماء في عِلم النَّفس، أو الفِقه والدِّين.
فنسمع مذيعة أو فنَّانة تأمر المرأة بأن تكُونَ مجرَّد خادمة للرجُل، وأن تتخلَّى عن طموحها المشروع في الحياة من العِلم والعمل وتحقيق الذَّات كيفما تحبُّ أن تكُونَ، أو التي تريدها بالتمرُّد على بيتها لإنشاء علاقات جديدة. وفي الحقيقة هُمْ مجرَّد جنود مأمورين لا نعرف من أين هبط بهم كوكب الادعاء لينشروا للنساء والرجال أقوالهم الفاسدة للحياة الإنسانيَّة، فأصبحت الحياة بَيْنَ قذائف هذه الكلمات لهؤلاء الذين دخلوا بيوتنا وسكنوها دُونَ استئذان، ساعد على ذلك نسيان الأصل والصحيح في تلك العلاقات، التي أمرَنا الله بها في كتابه الكريم يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا، وفي غير الإسلام تحثُّ التعاليم (أنَّ الْمَرْأَةَ الْفَاضِلَةَ تَسُرُّ رَجُلَهَا، وَتَجْعَلُهُ يَقْضِي سِنِيهِ بِالسَّلاَمِ)، وتعاليم الأديان السماويَّة، وضعت الإطار الصحيح للعلاقات الزوجيَّة، المبنيَّة على المَودَّة والاحترام والاحتواء.
في أحد تلك المقاطع الفاسدة يقول أحد المدَّعين الذي يحيط نَفْسَه بهالة من الظلام مع خلفيَّة خفيفة لموسيقى تجذب المتلقِّي وبصوت يسمُّونه الصوت الشتوي من أجْل إعطاء الوضعيَّة اللازمة للانتباه (إنَّ المرأة إذا فقَدَت الإحساس بالرجُل لا يُمكِنها الرجوع إلى حياتها الأولى مرَّة أخرى). أليس ما يقوله هذا المدَّعي دعوى للفرقة بَيْنَ الزوجيْنِ، فمن أين أتى بهذا الكلام؟ ونسي عن جهل أنَّ مع اختلاف الطباع والمشاعر والتربية والبيئة والتعليم والنشأة يختلف الأمْرُ من امرأة إلى أخرى، فكيف له جامعًا نساء العالَم كُلِّه في توصيف واحد وأخذ حكمة واحدة واتباع منهج واحد، طارحًا هذه المفاسد التي تسبب تدمير البناء في البيوت، بعد أن جذبت النساء والرجال للاستماع إليها، مع تسارع وتيرة الحياة، والانشغال بمقتضياتها، ممَّا جعل هؤلاء الدخلاء ينجحون في مسعاهم، وربَّما يكُونُ مخطَّطهم عن جهل لتدمير المُجتمعات العربيَّة، خصوصًا وأنَّهم يركِّزون في توجيههم على عنصر المُجتمع، بعد انتشار المذيعات والفنَّانات اللاتي يتناولن هذه الأمور، ويطلبون من المرأة التخلِّي عن واجباتها الزوجيَّة تجاه زوجها أو أبنائها، أو على النقيض يريدونها مجرَّد خادمة وذليلة للرجُل. إنَّ تجار الكلام الفاسد لا رقيب عليهم في مسعاهم ومخطَّطهم، وساعدوا في انتشار نسبة الطلاق في مُجتمعاتنا، ورفع درجة التأهب بَيْنَ الأزواج إلى الخط الأحمر، ممَّا يتطلب معه تكوين وعي عام لخطورة هذه الكلمات التي تبثُّ عن طريق شيطان «التيك توك» لأُناس لا نعرفهم أو نعرف مستنداتهم العلميَّة، ولكنَّنا ضحايا مخطَّطهم.. إنَّهم مِثل الذي يضع الصرصور في الطعام حتى لا يدفع الحساب. إنَّ هذه النوعيَّة من البرامج قاتلة، حتى لو لَمْ تُطلق الرصاصة عامدة، لكنَّها ليست بريئة عن التحريض، والاستخدام السيِّئ للمحتاجين إلى الحياة الحالمة البعيدة عن تجار المال والكلمات.



جودة مرسي
[email protected]
من أسرة تحرير «الوطن»