رواية «أمي كولجهان» هي الأولى للكاتبة غنية الشبيبية، سبقتها مجموعة قصصية بعنوان: سماء خضراء، ومن خلال الكتابين يتضح أن الكاتبة لديها حس سردي مُلفت، جعلني كقارئة لا أتردد في شراء إصدارها الثاني، بل ووضعه على رأس القائمة التي أود قراءتها بين كتبي، وبعد قراءتي لها أجد أنني أؤكد أنني سأكون من أوائل الذين يشترون إصدارها الثالث. يقول محمد بو عزة في كتابه تحليل النص السردي: إن الزمان والمكان عنصران أساسيان في العمل السردي، وقد يتم الاستغناء عن ذكر الزمن، والاكتفاء بالتعرف عليه من خلال السرد، أما المكان فلا بد أن يُذكر بشكل مباشر؛ لأن هذا يشجع القارئ على تخيل الحدث بدقة تامة.1وفي رواية (أمي كولجهان) نجد الزمان والمكان حاضرين بشكل ملفت؛ فنقلتنا إلى حيث يعيش الأبطال، وخاصة كولجهان، وقد جاءت الرواية كالكثير من الروايات العمانية التي اختار كُتّابها التوجه للكتابة عن التاريخ العماني، أو الحياة ما قبل عهد النهضة، والمعاناة التي عاشها العمانيون في تلك الفترة، مرورًا بعهد النهضة، وقد يختار البعض السرد بخطين زمنيين متوازيين (ما قبل/ ما بعد النهضة) وهو ما اختارته غنية في روايتها أمي كولجهان، متخذة من كولجهان (التي أسمتها أمها بهذا الاسم نسبة إلى صديقتها البلوشية كولجهان التي ماتت) بطلة ما قبل النهضة، وحياة (ابنة ابن أخيها) بطلة عهد النهضة.كما تدور الرواية في حارة (الحويرة) في ولاية المصنعة بمنطقة الباطنة، وقد نجحت الكاتبة في الكتابة عن عاداتها دون إسهاب، كما نجحت في جعلي أتعاطف مع كولجهان، التي مثلت حياة كل النساء في ذلك الوقت، والتألم معها ووالدها يقرر تزويجها من رجل لا تعرفه في ولاية صور البعيدة، غير عالِمٍ بنبضات قلبها التي كانت تميل باتجاه سعيد ابن أخو عمتها شمسة (زوجة أبيها) التي ربتها وأخويها بعد زواجها من أبيهم بعد وفاة أمهم رضية (صديقتها) متأثرة بمرض الجدري الذي أخذها؛ فتقرر الرضا بواقعها، الذي لم يكن لها إلا الرضا به، ككل النساء في وقتها، وتحاول التأقلم مع الحياة الجديدة، إلا أنها تتفاجأ بسقوط حملها، وتقرر الهرب من صور، والعودة إلى أهلها مع إحدى القوافل التي تأتي إلى الباطنة عبر جعلان، بعد أن تستشعر الخطر على حياتها عندما تعلم بالزار الذي تود عائلة زوجها إقامته لها، وسماعها لخادمتهم وهي تنذر بخطره على حياتها؛ لتثبيت حملها في المرة القادمة.يزوجها أباها لاحقا من سعيد، في محاولة منه للتخلص مما ألحقته بالعائلة من سمعة سيئة بهربها من بيت زوجها، وتطليقه لها بعد ذلك، غير عالمٍ أيضا بمشاعرها تجاه سعيد، وأنه كان حلمها الأول، الذي رفضه سابقا بعد عرض من زوجته شمسة، لأنه كان يراه بوضع اجتماعي أقل من أن يناسبه؛ فتعيش حياة هانئة، ولكنها لا تُرزق إلا محمد الذي يسافر إلى الكويت لدراسة الطب، وتستمر الأحداث دون توضيح نهاية محمد، إلا الحديث عن صورته المعلقة في غرفة والدته، تؤطرها بالورد بشكل شبه يومي، ثم يتضح لاحقا أن محمد قد مات في حرب العراق على الكويت، وكادت والدته تموت حزنا عليه، واعتزلت الحياة الاجتماعية في القرية، إلا أن رفيقات (الرايح) اللواتي اعتدن التجمع تحت الغافة، ومشاركة أفراحهن وأحزانهن لا يتركنها، ويأتين إليها حتى ينجحن في إخراجها من عزلتها.لكل واحدة من رفيقات الرايح حكاية، وكل حكاية هي حكاية امرأة من ذلك العهد، تختلف الأسماء، وتتشابه القصص، ولكن المعاناة أغلبها تبددت أو قلت بعد أن كبر الأبناء المولودون في عهد النهضة؛ فتغير معهم الحال إلى حال آخر.تحاول كولجهان تعويض فقدها برعاية أبناء حمد ابن أخيها سالم بعد وفاة أمهم وزوجها؛ فتربي حياة وأخيها ماجد، ثم تُصاب بالزهايمر، وكأن القدر أراد انتشالها من كل ذكرياتها الأليمة التي مرت بها، ولكنه القدر ذاته شاء أن يُحضر لها ابنها في وقت لا تتعرف عليه، بعد أن تتعرف حياة على مهندس كويتي، يقرر خطبتها، ويحضر والده، الذي يكتشفون أنه ليس إلا محمد (ابن كولجهان)؛ فيتعرف عليه والد حياة؛ ليتضح أنه لم يمت في القصف على المستشفى الذي يعمل فيه، ولكنه أصيب إصابة شديدة، اضطر معها للسفر إلى أميركا للعلاج، وهناك وصله خبر وفاة أمه، وقرر عدم العودة إلى عمان؛ لرحيل أبويه، والحياة في الكويت حيث كان قد تزوج من إحدى زميلاته هناك، قائلا: (العائلة هي ما تصنع الوطن، ودونها يظل الإنسان عائما شاردا، تلتهمه الوحدة حتى تنجرف رجلاه إلى القبر) ص194.السرد في الرواية جميل، وقد نجحت الكاتبة في التأثير بي، واستطاعت إشغال فكري بأبطالها، ومواصلة القراءة حتى النهاية، وهذا يدل على نجاحها، وتمكنها من أدواتها السردية، وكما قال عبد الملك مرتاض في كتابه حول دور الشخصيات في العمل السردي، «هي التي تصنع اللغة، وهي التي تبث أو تستقبل الحوار، وهي التي تصنع المناجاة، وتنجز الحدث، وهي التي تقوم بتضريم الصراع أو تنشيطه من خلال سلوكها وأهوائها وعواطفها».2 استطاع أبطال رواية (أمي كولجهان) إثبات وجودهم بين دفتي السرد.قبل أن أنهي قراءتي أنوّه لبعض الملاحظات على الرواية بدءًا من عنوانها إلى الفكرة إلى الحبكة:1)عنوان الرواية: (أمي كولجهان، حكايات الظل والحرور) أخذني مباشرة إلى رواية (دلشاد: سيرة الجوع والشبع) للكاتبة بشرى خلفان، والتي كانت ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر 2022، وإحدى الروايات الفائزة بجائزة كتارا للأعمال المنشورة في ذات العام. ولو اكتفت الكاتبة بـ (كولجهان) كعنوان لروايتها لما حدث هذا اللبس بين العنوانين، إذ لم أجد ما يبرر استخدام جملة حكايات الظل والحرور في الرواية.2) إصابة حياة بمرض أو متلازمة ماير – روكتنسكي – كوستر هاوزر (MRKH) وهي متلازمة عدم اكتمال تخلّق جهازها التناسلي كامرأة، وأجد أن هذا الأمر لم يضف شيئا للرواية، بل على العكس أخذنا من عالم كولجهان إلى عالم حياة المختلف تماما، وكأننا في رواية أخرى، دون أن تأخذ حقها في المساحة السردية، رغم أنني اطلعت على لقاء للكاتبة توضح فيه أن الأمومة عنصر رئيسي في الرواية لذلك جاء العنوان «أمي كولجهان» إلا أني لا أتفق معها في ذلك، وإلا فإن الكاتبة لم تمنحه ما يستحق من زمن الرواية.3) عتبة الخروج التي وضعتها الكاتبة في بداية الرواية، كشفت الكثير من أسرار الرواية، وجعلتني كقارئة أعرف النهاية من الصفحة الأولى، وكل ما كنت أقرأه من سرد أعرف إلى أين سيؤول بي، ولو كنت مكان الكاتبة لشطبت هذه العتبة وأنا ابتسم.4) بشكلٍ ما، هذه الرواية كالكثير من الروايات العمانية التي اختارت أن تكون ظلا لرواية سيدات القمر بعد فوزها بالبوكر، ونحن في الحقيقة بحاجة إلى الجدية أكثر في الأفكار، وتحمل مسؤولية الاعتناء بالأدب العماني دون تكرار الفكرة ذاتها (مقارنة الحياة بين عهدين)؛ لأن القارئ الشغوف هذا اليوم بقراءة الحياة في الماضي سيمل يومًا ما، إلا إن تم ربط الأمر بالحاضر بشكل يجعل الماضي ضيفا على العمل الأدبي لا عنصرًا رئيسًا فيه.أخيرًا؛ هذه الملاحظات لا تبخس الرواية حقها من حيث التميز، خاصة إنها الراوية الأولى للكاتبة، وأستطيع القول إنها الرواية الأجمل من حيث السرد، وعدم التكلف من بين ما قرأته من روايات عمانية صدرت هذا العام، والتي قرأت أغلبها.