انتهى رمضان، ذلك الشهر الفضيل الذي كنَّا فيها نتعبد، ونتقرب إلى الله في كل أوقاتنا: مساءً، وصباحًا، غدوًّا، ورواحا، ونستشعر أن قوة كبيرة قد وُضِعت فينا، وأن الشياطين قد سُلسِلوا، وقُيِّدُوا، وكان المؤمن من السهل عليه أن يقف ساعة ونصف كاملة تبدأ من صلاة العشاء حتى يدعوَ الإمام بعد انتهاء القيام كاملا، ويظل المسلم منا في بيت الله طويلا ، وكذلك يعتكف بالنهار ، وينال بالليل قسطا من الاعتكاف في بيت من بيوت الله، لصلاة التهجد التي تبدأ غالبا في الساعة الواحدة ليلا، وتراه يمْكُثُ ليلة القدر طيلة ساعاتها يتعبد، وإلى ربه يتقرب، ويدعو ربه، ويبكي، ويسبِّح، ويتلو، ويرجو الله القبول، وتراه يتصدق، ويرق قلبه للمساكين، وأهل الحاجات، ويساعدهم، وكان شهرًا قد قام فيه كل مسلم بكل ألوان الطاعات، والقربات.انتهى الشهر المبارك، ويجلس المسلم يتأمل كيف مَرَّ هذا الشهر الفضيل سريعا، كما قال الله- تعالى- في وصفه:” أياما معدودات”، يتحسر أنه أضاع ساعاتٍ هنا، وساعاتٍ هناك، وتكلم في كلام الدنيا هنا كثيرًا، وراحت منه ساعاتٌ كان يمكنه فيها أن يتلو القرآن الكريم بدل الحديث في الدنيا وزينتها، أو يذكر الله بكل ألوان الذكر، يتحسر أنه لم يزددْ من خيرات هذا الشهر المبارك، ولم يجتهد في ساعاته اجتهادًا يليق بالشهر الكريم، ولم يُحْسِنِ استثمار ساعاته، ولا استغلال أيامه، ولياليه، ولكنْ، هناك مَنِ استغلوه أحسنَ استغلال، واستثمروا أيامه أحسن استثمار، فقد قرؤوا القرآن الكريم كله مرارًا، وتعلموا أحكامه، وتلوا آياته تدبرا، وعملا، وذكروا الله ذكرا كثيرا، وعلَّموا الناس، وما أضاعوا ساعةًً من ساعاته، وعكفوا على كتاب الله: تلاوةً، وتدبرًا، وتعليمًا، وتعلما، وأقاموا الدروس، والندوات، وحضروا المحاضرات، وخرجوا من رمضانَ شاكرين لله، فالناس في رمضان أصناف: منهم مهتمون بقدسيته، وعاملون على استثمار أوقاته، وآخرون متهاونون فيه، ولأوقاتهم مضيِّعون، والعياذ بالله، وآخرون مرة ينهضون، وأخرى يتعثَّرون، ويعودون، ثم ينكصون، فهم بين نهوض، وخمول، ونشاط، وذهول.انتهى رمضان، وبقي أن نرصد أهم نتائجه، وما على المسلم أن يفعله بعد رمضان، فمن نتائجه التي علَّمَنَاها ، ووقفنا عليها من خلاله، ومن خلال دروسه، وبركاته أنه شهر الصبر ، تعلمنا منه الصبر عن الطعام، وعن الشراب، وعن الوقاع أكثر من ست عشرة ساعة يوميا، وكنا نصبر، ونقوى على التحمل، وتعلمنا منه التعاون، والتكافل، والتراحم، والرقة للمساكين، والمعاويز.تعلمنا منه الوَحدة: صيامًا وإفطارًا، ودعاءً، وقيامًا وتهجدًا، وإنفاقًا للصدقات.تعلمنا منه العفة في القول، والفعل، وتعلمنا منه حُسْنَ الحديث، وقول الخير، أو الالتزام بالصمت، تعلمنا منه احترام أهل الحاجة، وتقدير أحوالهم، والسعي في إسعادهم، وتعلمنا منه الصبر على الطاعة، والقيام بها خير قيام، وكثرة التردد على المساجد، وتحصيل الثواب الكبير من إدراك صلاة الجماعة ، وتعلمنا منه عدم قول الزور، ولا العمل به، وأن نقول للناس حسنا، وألا نضيِّع وقتا غاليا من أوقات الطاعة في هذا الشهر الكريم، وتعلمنا فيه كثرة التلاوة لكتاب الله الكريم، وكثرة الذكر، وتتابع الشكر، وقد قال العلماء: “إنِّ من علامات القبول لرمضان أن يظل المرء عابدا ذاكرا، مسبِّحا، طائعا، متهجدا، قائمًا وثابتًا بعد رمضان على ما كان يعمله في رمضان فترة طويلة ، وألا يُدْبِرَ عن الله مع أول رؤية هلال الفطر، وألا يترك بيوتَ الله التي كان يعمُرها كثيرًا كل يوم، ومن العلامات كذلك أن يظل المرء على العهد فترة مطبِّقا قوله - تعالى:” فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب”، وقوله - سبحانه-:” فلا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون”، وقوله- تعالى-:” واعبد ربك حتى يأتيك اليقين” أي الموت، فيظل على العهد الرمضاني لا يترك العبادة، ولا ينكص، وشعاره: “وعجلتُ إليك رب لترضى”.انتهى الشهر الفضيل، فتعلمنا منه كل تلك القيم التي ستظل ترافقنا إلى رمضانَ آخرَ، فإن الصحابة الكرام كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، فإذا بُلِّغوهُ، وانتهى، مكثوا الستة الأخرى يدعون الله أن يتقبله منهم، وأن يبقيَهم إلى رمضانَ آخرَ، فهم على صلة متتابعة برمضانَ، لا ينسونه، ولا ينكصون عن عباداتهم، وطاعاتهم، وإرضاء ربهم- سبحانه-.فعلى المسلم أن يتذكر كل تلك القيم والمعاني والدروس التي تركها الشهر الفضيل فينا، وأن نظل موفين للعهد، عاملين بما تعلمناه من جلال الشهر، وكماله، وأن نستصحبها فترة طويلة، وأن نحفظ عهد رمضان بالإكثار من الطاعة، والاستزادة من العبادة التي كانت في رمضان، وأن نعيش في أفيائه، وبركاته مدة من الزمان، وأن يكون شعارنا:” واعبد ربك حتى يأتيك اليقين”، وأن نُرِيَ ربَّنا منا ما يرضيه عنا، وما يقرِّبنا منه، وألا يُبعدَنا عنه، وأن نوفيَ لرمضان بما عَلَّمَناه، ونمضيَملتزمين بكل خلق، ونبل غرسه فينا، فهو مدرسة الأخلاق، وجامعة التربية التي تنضح على جوارحنا طوال العام، كل عام أنتم وأسركم جميعا بخير، تقبل الله منا ومنكم طاعاتِكم، وضاعف لنا ولكم ثوابَ عباداتكم، هُنِّئْتُمْ بالقبول من رب كريم يعطي الجزيل، وهو خير مسؤول، وأكرم مأمول، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وتُستنزَل البركات،وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. د. جمال عبد العزيز أحمد جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية[email protected]