تأتي تلك الأيام المباركة التي هي في نهاية الشهر الفضيل والتي درج الصائمون على تسميتها بالعشر الأواخر وما يتخللها من ليلة القدر، وما فيها من جلال وكمال وجمال، وما فيها من ثواب ومنزلة وقدر، ندور حول بلاغتها ودلالاتها، وما تعطيه من قيم تربوية وإيمانية، يقول الله- تعالى-:”إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)” سورة القدر.
هذه السورة على قلة آياتها، وقلة حروفها قد تضمنت الكثير من المعاني، والقيم، والدلالات، فأولها أنها أتتْ في جميع آياتها بالجمل الاسمية التي تقرِّر أحكاما، وترسي قيمًا، وترسخ معانيَ في قلب كل مسلم، فأول جملها الاسمية جملة اسمية مؤكدة ب”إن”:” إنا أنزلناه في ليلة القدر”، فتقرر وتؤكد نزول القرآن الكريم في تلك الليلة، سواء أنزل منجما، ومتتابعا، أم نزل كاملا في السماء الأولى في بيت العزة، كما تروي السيرة المباركة، والجملة الثانية:” وما أدراك...”، وهي كناية عن عظمتها، وجلالها، وأنها لا يعلم كنهَها إلا اللهُ، والتعبير بالماضي(وما أدراك) يعني أننا فعلا لا ندرك عظمتها، وأن الله وحده هو صاحبها، وعالم منزلتها، ثم جملة:” ما ليلة القدر” الاستفهام هنا للتعظيم والتبجيل، ثم الجملة الاسمية في:” ليلة القدر خير من ألف شهر” هو ثبات في بيان منزلتها، وكبر مكانتها، فهي أفضل وأخير من ألف شهر كاملة، ثم جملة :” تنزل الملائكة”، أي “ليلةُ القدر تنزَّل فيها الملائكة” ، فكأنها خبر لمبتدأ متقدم محذوف للسياق قبله، وهي كناية عن طهرها، وبركتها، ونورانيتها، وجملة:” والروح فيها” اسمية، كناية عن عظمتها؛ حيث ينزل الروح الأمين، سيدنا جبريل- عليه السلام-، وفيها دلالة على عظمتها، وأن رئيس الملائكة يرسله الله بنفسه تشريفا لها، ومعه كلُّ الملائكة، وشبه الجملة:” بإذن ربهم متعلق بالفعل: “تنزل” الذي يفيد تواصل النزول طوال أحداث الليلة، و”أل” في الملائكة جنسية أيْ لا يحصون عددا، أو عهدية أي الملائكة الكرام الذي عينهم الله لها، وحددهم، وشبه الجملة(بإذن ربهم) يبين كمالها، وأنهم مأذون لهم من ربهم- جل جلاله-، وجملة:” من كل أمر سلام” جملة اسمية تبيِّن قيمة السلام، وتنوعه في تلك الليلة، و “كل” تفيد الشمول، والعموم؛ لكونها نكرة، وأضيفتْ إلى النكرة: (كل أمر)، والمبتدأ المؤخر(سلام) يفيد تعدُّد السلام، وتنوعه، وشموله كل ألوان السلام، وجملة:” سلام”، أي سلامها هو السلام”، فهي خبر لمبتدأ محذوف وجوبا، تقديره:” سلامها سلام”، وفيه تأكيد على سلميتها من أولها لآخرها، وجملة:”سلام هي” جملة اسمية، فيها تقديم وتأخير أي”هي سلام”، فقدَّم السلام؛ إشعارا بأهميته، وبيانًا لقيمته، وجملة :”هي حتى مطلع الفجر”اسمية ، كناية عن تحديد زمنها، فهي ماضية إلى أن يطلع الفجر، ف”حتى” حرف غاية وجر، يفيد انتهاء الغاية الزمانية، و”مطلع” إما أنه اسم زمان، وإما أنه مصدر ميمي، أي إلى طلوع الفجر، فالليلة مستمرة، ومستمر خيرها، وبرها، وفضلها إلى آخر لحظة قبيل الفجر، ويمكن لكل مسلم إدراكها لو كان متيقظا، ونزل إلى بيت من بيوت الله، ووضع قدميْه بنية الاعتكاف، فقد دخل فيها، وفي أهلها، كما أن الآيات فيها، وفي كلماتها النور، والضياء، كما في نحو: “القدر- خير - الملائكة - الرح- إذن ربهم- سلام الفجر” كلها ضياء، ونور، وفسحة، وسرور، ورضا، وحبور.
كما أن فيها الفعلين:(أنزلناه)، و(تنزل) الأول يعني النزول دفعة واحدة، والثاني يعني تدرج النزول وتتابعه، ومرحلياته وفق الأحداث، والنوائب، ومتطلبات الحياة، وظروف الناس، وأحوالهم.
كما أن فيها أساليبَ لغويةً كثيرة، منها أسلوب التوكيد ب(إن)، واستعمال نون العظمة، وأسلوب التكرار لبيان المكانة: (ليلة القدر)، وأسلوب الاستفهام التفخيمي، والتعظيمي، وأسلوب التفضيل: (خير من ألف شهر) أي أخير وأفضل من العبادة في ألف شهر، وأسلوب التخفيف بحذف تاء (تنزل)، وأسلوب الحذف، وأسلوب التقديم والتأخير، واستعمال الجمل الاسمية في كل السورة الكريمة.
وفي السورة ما يدعو بعضهم لجعل ليلة القدر هي ليلة السابع والعشرين، ويقول: جاءفي السورة من الأدلة ما يأتي: أن تركيب (ليلة القدر) هو تسعة أحرف، وتكرر هذا التركيب ثلاث مرات، فيكون عدد الحروف سبعة وعشرين حرفا هي ليلة القدر، كما أن كلمة(هي) تعد الكلمة السابعة والعشرين من بين كلمات السورة، فهي عندما تصل إليها كأنما يشار لك ويقال: “هي هي”، كما أن حروف المعاني قد قامتْ هي الأخرى بوظائفها في الربط: حبكا، وسبكا، وهي: (في) في قوله: “في ليلة القدر”؛ حيث الظرفية، وأنه تغلغل نزول القرآن الكريم في أطواء الليلة كاملة، و(خير من..) حيث جاءت(من) لبيان أنها لا خير منها، وأنها خير من كل تلك الشهور(ألف شهر) ، (والروح فيها) أي منغمس مظروف فيها، وهو سيدنا جبريل؛ وذلك تشريفا لها تعظيما لقدرها، و(بإذن ربهم) يفيد السبية، والأجلية، والمعية، أي مع إذن ربهم، أو بسبب وأجلية الإذن الرباني، و(من كل أمر) دلالة على تنوع السلام، وتعدد الأوامر التي لا تحصى في تلك الليلة، و(حتى) تفيد انتهاء الغاية الزمانية، ووضَعَتْ حدًّا لآخر الليلة، وحددت وقتها تماما.
وبالجملة، فقد تضمنتْ السورة- على قلة عدد آيها، وحروفها- الكثير من القيم، والخيرات، والدلالات، والأساليب، والتعبيرات، والفوائد ، والبركات، بما لا ينهض به كتاب كامل، ولا كتب كوامل، والحمد لله رب العالمين،وصلى الله وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

د. جمال عبد العزيز أحمد
جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]