ظهرت في العديد من المجتمعات الكثير من المشاكل المرتبطة بالعمل، ومن أبرزها ـ برأيي المتواضع ـ هو أن الناس باتوا يعالجون مشاكلهم العاطفية بالعمل الطويل أو المرهق، وبالتالي قد يؤدي إلى نوع من الإدمان. فهل هنالك صدقًا علاقة قوية بين إدمان العمل وأعراض الاضطرابات النفسية، مثل القلق والاكتئاب؟
حقيقة علماء النفس جادلوا في ـ السببية العكسية ـ أي أن الناس قد يعالجون اكتئابهم وقلقهم بسلوك مدمن للعمل. ما أعنيه أنه قد يتطور إدمان العمل (في بعض الحالات) كمحاولة للحدِّ من الشعور بعدم الراحة من القلق والاكتئاب! وهنا جميعنا نتذكر ولعدَّة أشهر خلال فترات الإغلاق الأولية لجائحة لكورونا (كوفيد-١٩)، كيف أن الكثير من الأفراد عانى الملل والوحدة والقلق. بل إن عددًا من الناس ظهرت لديهم أعراض الاكتئاب. ولكن لو نظرنا بعمق أكثر سندرك جيدًا أنه قبل الجائحة تلك النسب كانت أقل! والسؤال يطرح نفسه هنا: هل من الممكن أن الكثير من الموظفين ـ مثلًا ـ عالجوا أنفسهم من خلال مضاعفة أدائهم الوظيفي من أجل الشعور بأنهم مشغولون ومنتجون؟!
من ناحية أخرى ـ حديثي هنا لا أعممه على كل أفراد المجتمع، وإنما بعض الناس ـ يمكن للأشخاص الذين يعانون من إدمان العمل أن ينكروا بسهولة أنها مشكلة، وبالتالي يفقدون المشكلات الأساسية التي يعالجونها بأنفسهم؛ فكيف يمكن أن يكون العمل المضاعف سيئًا؟
حقيقة أعتقد بأن تفاقم الإرهاق والاكتئاب وضغوط العمل والصراع بين العمل والحياة لعدد من الناس، يمكن أن يؤدي ذلك الإدمان العملي ـ إن استطعت القول ـ إلى إدمان ثانوي للمخدرات أو المواد المسكرة، والتي يستخدمها الناس للتداوي الذاتي للمشاكل التي يسببها الإدمان الأساسي، والتي ـ بلا شك ـ غالبًا ما تنتهي بعواقب شخصية وخيمة.
ومن هنا ولتقليل إدمان العمل هذا، يمكن أن تكون هنالك حلول فردية منها: جدولة وقت معيَّن للتوقف عن العمل الخاص بك، بأن تقضيه ـ على سبيل المثال ـ مع أطفالك. وتخصيص وقت في يومك للأنشطة غير المتعلقة بالعمل، تمامًا كما تفعل في الاجتماعات!
ولعلَّ الأهم من ذلك ولبضعة أيام، قد يكون الأفضل للفرد في هكذا حالة تدوين أنشطته الرئيسية كالعمل وساعات الترفيه، وملاحظة الأنشطة التي تجلب له المزاج الأكثر إيجابية، بل وبرمجة ساعات الفراغ وبشكلٍ جيِّد. فإذا كنت تستمتع بالاتصال بصديقك، فلا تتركه عندما يكون لديك وقت.. حدِّد موعدًا لذلك والتزم بالخطة!
ختامًا، ربما يمكن أن يحدث التعامل مع إدمان العمل فرقًا حقيقيًّا في حياتنا. فيفتح الوقت للعائلة والأصدقاء. وحتى وأنه يمكن الفرد من الاعتناء بنفسه بشكل أفضل ـ على سبيل المثال ـ من خلال ممارسة الرياضة. وبشكلٍ ما كل هذه الأشياء تزيد من السعادة وتقلل من التعاسة. ولا ننسى أن عدَّة اضطرابات نفسية، كاضطراب الوسواس القهري ـ مثلًا ـ ثبت ارتباطه أيضًا بالعمل المفرط المرهق. وهنا جزمًا يُعدُّ التوقف عن استخدام العمل لإلهاء نفسك عنه فرصة لمواجهة مشاكلك، وبالتالي حل المشكلة التي جعلتك مدمنًا على العمل المفرط في المقام الأول. فغادر المكتب مؤقتًا وواجه مشاعرك وجهًا لوجه.


د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]