في ظل الظروف التي تعيشها بعض المجتمعات، أكانت تلكم الاجتماعية أو الاقتصادية منها، أو التي قد تكون تحت وطأة الحروب أو عانت من ظروف مناخية بحيث أضحى أفرادها يشعرون بالوحدة، بل وأصبح شعورًا دائمًا للكثير من الأفراد إلى أن تحوَّل إلى مرض نفسي دائم! فما هو الشعور هذا، ومدى صعوبة التعرف عليه؟
ولعل المفارقة في الشعور بالوحدة هنا، هي أن معظم الناس قد شارك في تجربتها يومًا ما في حياته. وربما يسأل ذلك الشخص نفسه: كيف يمكنني بناء حياتي حول الناس؟
بطبيعة الحال، الوحدة هي شعور شخصي بأن الروابط البشرية التي نحتاجها في حياتنا أكبر من الروابط البشرية التي لدينا. وهذا العنصر الذاتي مهم، لأنَّ ما لا يعنيه الشعور بالوحدة هو شيء يتم تحديده من خلال عدد الأشخاص من حولك. يمكن أن تكون محاطًا بشخص أو شخصين فقط وتشعر بالرضا التام إذا كانت لديك علاقات قوية معهم. ولكن يمكنك أيضًا أن تكون مثل العديد من طلاب الجامعات، في حرم جامعي به آلاف الأشخاص ـ أو يمكن أن تكون في مكان عمل محاط بمئات الأشخاص ـ لكنك تشعر بالوحدة العميقة، وهي تجربة للأسف يمرُّ بها الكثير من الناس اليوم!
خصوصًا وأن الوحدة يمكن أن تتنكر مثل الكثير من الأشياء المختلفة. عند بعض الأفراد ـ خصوصًا الرجال ـ يُعدُّ الغضب وقصر المزاج من الطرق الشائعة التي تظهر بها الوحدة. بالنسبة للآخرين، قد يبدو أنهم هادئون أو متحفظون أو منعزلون. ولكن مرة أخرى، فإن جودة الاتصالات أو العلاقات هي المهمة لكسر حاجز الوحدة مع الوقت، ولكن للأسف ليس دائمًا! فقد يخرج ذلك الفرد للاجتماعات أو حضور حفل ما، وقد تلاحظ بأن لديه حياة اجتماعية نابضة بالحياة، لكنه كان يشعر بتلك الوحدة، والأسوأ أنه لا يشعر بالارتياح لقول ذلك والاعتراف به!
وهذا حقيقة يأخذني إلى نقطة جوهرية، ألا وهي أن الوحدة ظاهرة خفية مثل العديد من النتائج الأخرى للصعوبات النفسية أو حتى الأمراض النفسية ـ لا يمكنك معرفة ذلك. في بعض الأحيان لا يمكنك معرفة من يعاني من الإدمان على سبيل المثال. وبالتالي لا يمكنك إخبار شخص ما بالاكتئاب، ولا يمكنك إخبار شخص ما بأنه وحيد. لذا فمن الصعب مساعدتهم!
لذلك أجزم هنا، أن مثل هؤلاء قد يحتاجون اهتمامًا أكثر، أو حُبًّا أكبر ممَّن حولهم. ألا تعتقد معي وأنت تشاهد تفاعل الأطفال الصغار، فهم لا يهتمون حقًّا بمدى شهرتهم، بل ولا يهتمون بالمال أو الممتلكات التي لديهم. يمكن أن يكونوا سعداء في منزل صغير أو منزل كبير. لكنهم يستمدون الكثير في لحظات الحُب تلك التي لديهم مع والديهم وإخوتهم وأفراد العائلة والأصدقاء الآخرين.
وبواقعنا حقيقة وبمرور الوقت، يعلمنا المجتمع والأشخاص من حولنا أشياء مختلفة، أليس كذلك؟ لقد أصبح الناس أيضًا تنجذب نحو المقاييس الأخرى للنجاح، لكنها لا تقود للسعادة حقًّا! وبالتالي، في النهاية، السؤال الذي يجب أن نطرحه على أنفسنا هو: ما الذي نريده حقًّا من الحياة؟ ما يمكنني أن أذكره تحديدًا في هذا السياق هو إحدى التجارب التي نعيشها أحيانًا مع شخص ما أو أحد مرضانا، وربما وأنا أتحدث عن تلك اللحظات الأخيرة في حياة شخص ما، تلك الساعات الأخيرة، الأيام الماضية عندما تشرفت بالجلوس بجانب سريرهم وإمساك أيديهم والنظر في أعينهم والاستماع إلى انعكاساتهم النهائية على حياتهم الرائعة. ما يتحدث عنه الناس في تلك اللحظات الأخيرة، ليس حجم مكتبهم أو الترقية التي حصلوا عليها أو الوظيفة المرموقة أو حجم حسابهم المصرفي. ما يتحدث عنه الناس هو العلاقات وماذا سيكون بعد رحيلهم وهم ينتقلون إلى الحياة الأخرى. يتحدثون عن الأشخاص الذين أحبوهم، والأشخاص الذين يرغبون في قضاء المزيد من الوقت معهم... أوَلَيست هذه هي الحقيقة؟!
ختامًا، إذا نظرنا إلى الأرقام المتعلقة بالوحدة وأدركنا أن لدينا عددًا أكبر من الأشخاص الذين يعانون من الوحدة، أكثر من المصابين بمرض السكري ـ مثلًا ـ فقد يجعلنا ذلك ندرك أنه من المحتمل أن نغير الوضع قليلًا فيما يتعلق بكيفية التعامل مع الآخرين والسؤال عن أحوالهم.


د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]