“4” مزيج بين الحضارات القديمة والحداثة.
القرى والبيوت الكورية النموذجية التقليدية هي كذلك من بين المحطات التي تتوقف أمامها الحافلة السياحية، وتحكي تفاصيل الحياة القديمة وعاداتها وممارساتها ومقتنياتها مثلما كانت عليه في الماضي، وتصاميمها المعمارية التي تقوم قواعدها ومكوِّنات بنائها على الأخشاب المزينة بأشكال من النقوش الجميلة المعبِّرة عن الإبداع والدقة والأناقة، والتقاليد الكورية القديمة. وأشهر هذه القرى النموذجية القديمة التي تجوَّلنا في مرافقها وأزقتها وأسواقها التي تبيع منتجات الحرف التقليدية والملابس الفلكلورية القديمة قرية “لكتشون” التراثية التي تحكي نمط المعيشة وتقاليد حياة الشعب الكوري قبل “٦٠٠” عام تقريبا، وتتميز بالبيوت التقليدية والتصاميم الجميلة الهادئة والنقوش الرائعة والآسرة، ولا يزال السكان محتفظين بدورهم وحياتهم القديمة الهانئة. أما قصر “جيونجيوك”، فهو من أضخم القصور القديمة وأكثرها سعة وجمالا في سيئول التي تعرف بمملكة “جوسون” القوية التي حكمت خلال الفترة من ١٣٩٢ وحتى ١٨٩٧م، يحيط بالقصر من جهاته الأربع، سور حجري يمتد لمسافات طويلة، ويضم العديد من البوابات التي صممت على شكل سفينة تقبع أعلاها أخرى، تحتشد بالزخارف والنقوش البديعة التي تبهر الزائر، وتُعد البوابة الرئيسة الكبرى، تحفة فنية تصور ازدهار المملكة وقوتها، وهي وحدها من المزارات السياحية المهمة في سيئول. يضم القصر العديد من البيوت والغرف والمرافق والقاعات ومتاحف تقدم شكل الحياة في عصر مملكلة “جوسون”، وسعدت كثيرا عندما وجدت في ركن الاستقبال دليلا، باللغة العربية يعرف بـ”المتحف الشعبي الوطني الكوري”، داخل القصر، مما جاء فيه “متحف كوريا الشعبي الوطني هو ساحة ثقافية تختص في البحث في الحياة والثقافة الكوريتين وعرضهما والتعليم بشأنهما وحفظهما... ويعرف الزائرين على مجموعة واسعة من خصائص الحياة اليومية، ما يأكله الشعب الكوري وما يرتديه وأماكن إقامتهم، والزراعة ودورة الفصول الأربعة، والتعريف بالأسواق التقليدية والثقافة وأهم الأحداث التاريخية...”. يذكر أن التصميم المعماري للمتحف فاز بـ”جائزة مسابقة تصميم المتحف الوطني لعام ١٩٦٦...”. وتجرى على بوابة القصر تقاليد تغيير الحرس الملكي وفقا للأعراف القديمة، بما في ذلك حمل السيوف والأزياء العسكرية التقليدية والموسيقى وخلافه، وهي واحدة من عوامل الجذب لمشاهدة القصر وغرائبه. البيت الأزرق، أو ما يسمى بـ”البلاط الأزرق”، هو المقر الرئيسي للرئيس الكوري الجنوبي، ويتكون من مجموعة من المباني، تم تصميمها على النمط المعماري الكوري التقليدي القديم، وشيد على منطقة كانت حديقة ملكية لمملكة “جوسون”، ويوصف البيت الأزرق باعتباره “النسخة الكورية من البيت الأبيض”. أما مبنى “دونج دايمون ديزاين بلازا” ذو اللون الفضي فهو بحق تحفة فنية، والأجمل بلا منازع من وجهة نظري للصروح الحديثة في سيئول، وصُمم على شكل جرم سماوي عملاق، ويتدرج في شكله من الضخامة إلى منتهى الصغر، وكأنه جسم فضائي هابط من السماء، وشُيد على مساحة واسعة من الأرض، وإلى جانب تخصصه كمركز ثقافي فهو كذلك يضم صالات للعرض، ومكاتب للعديد من الشركات وروَّاد الأعمال، والكثير من المتاجر والعلامات التجارية الكبيرة. ومما يبهج النفس أن المبنى هو مفخرة من مفاخر المصممة العربية العراقية “زها حديد”. وفي سيئول الكثير الكثير من المتاحف والمسارح والمعالم السياحية ومجموعة واسعة من مناطق الجذب التي تحفز على الزيارة، وتقدم مزيجا من حضارات تاريخية قديمة كانت مزدهرة، وتصاميم معمارية حديثة ومنتجات تكنولوجية عصرية استثمرت في جميع مناحي الحياة واستخدامات الإنسان. تكلفة حياة السائح في كوريا الجنوبية، بما في ذلك أسعار الفنادق والمطاعم والمقاهي وخدمات النقل وزيارة المقاصد التي تستقطب الزائرين والتطواف بين المناطق والمدن ليست رخيصة، كما أنها لا تصل إلى الفحش في الغلاء، هي بين بين، مع العلم أن المعالم والمواقع السياحية التي تشرف عليها مؤسسات حكومية رسمية، الدخول إليها مجانا. الأسواق في المدن الكورية عامة، وسيئول خاصة، بأنواعها وتخصصاتها تنتشر بكثافة وتزدحم بالمتسوقين وتحتشد بغرائب السلع والمنتجات والصناعات الكورية التي تلفت الأنظار وتشد الانتباه وتغري المستهلك فيسيل لها لعابه، وقد تستدرجه لينفق من المال ما فوق طاقته، وهذه ـ والله ـ واحدة من أكبر أضرار قِيَم العولمة ومبادئ الرأسمالية في عالم اليوم، الإفراط في الإنفاق والمبالغة في الاستدانة. المدينة الذكية، أو ما يطلق عليه بـ”مدن المستقبل”، في “سونجدو”، هي واحدة من أشهر المعالم الحديثة في سيئول، التي تعتمد الحياة فيها على التكنولوجيا المتطورة، إذ تشهد كوريا الجنوبية تقدما كبيرا، وتعد نموذجا لمحيطها في الازدهار والتطور التقني، ومُسْهما قويا في ثورة الذكاء الاصطناعي، والنمو المعرفي والعلمي في قطاعات ستكون لها الريادة المستقبلية دون منازع. و”بخ بخ”، لمن تحقق له فيها الفتح والقدرة على المنافسة والإسهام القوي الفاعل. شبكة المترو في سيئول هي كذلك، عالم آخر من الفخامة والجمال والأبهة، حيث أناقة ونظافة الأنفاق والمحطات وروعة تصاميمها، التيسير على مستخدمي المترو ببناء سلالم ومماشٍ ومصاعد كهربائية، والسهولة في التعرف على مواقع المحطات واستخراج بطاقة راكب إلكترونيا، ربط المراكز التجارية والمعالم السياحية المهمة بمحطات المترو عبر شبكة من الأنفاق التي استثمرت أيضا كأسواق ومحالَّ تجارية ومقاهٍ ومطاعم نشطة للغاية، إلى جانب ذلك فالمترو يوفر على المواطنين والحكومة الوقت والجهد والمال، ويُسهم في معالجة الاختناق المروري ومؤشر على تطور الدول ومعلم حضاري وسياحي... فمتى سيرى مشروع مترو مسقط النور يا ترى لكي يعالج الاختناقات المرورية التي نعاني منها، ويخفف على موازنة الدولة البند السخي في توسعة وإنشاء وصيانة وإنارة المزيد من الشوارع...؟ إنه السؤال القديم الجديد ذاته لا يزال يكرر نفسه.



سعود بن علي الحارثي
[email protected]