عندما لا نسمي الأشياء بمسمياتها الأصلية نحفر طريقا للتيه، نغوص معه في الوحل دون الولوج إلى حقيقة الأشياء. وكثيرة هي الأشياء التي يطلق عليها أسماء تبعدنا كثيرًا عن المعنى الحقيقي لها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عندما نسمي الشذوذ “المثلية”، لكي نخفف الوقع الأصيل للكلمة ومعناها، وإذا بحثنا عن معنى كلمة المثلية في معجم اللغة العربية نجد التعريف الآتي لها في معجم المعاني الجامع وهي “اِمْتَثَلَ الْمَثَل: تَصَوَّرَهُ، أوْ بَيَّنَهُ، أفَادَهُ، رَوَاهُ اِمْتَثَل بالْمَثَلِ. مَثَلَ التَّمَاثِيلَ: صَوَّرَهَا، نَحَتَهَا” وهذا المعنى يختلف تماما عن من يمارس في المثلية ويكون تحت مسمى أصلي لكلمة الشذوذ، ومثل آخر اسُتعمل في أثناء الستينيات وبالتحديد بعد هزيمتنا في حرب 67 أبدلنا كلمة نكسة كمرادف لكلمة هزيمة، من أجل نسيان واقع مرير استطعنا تبديله بعد ست سنوات بحرب أكتوبر المجيدة.
هذا الأسلوب انتهجه معنا الغرب لتحويل الأشياء غير المقبولة إلى أشياء مقبولة، ونحن نعيد تداولها ربما عن دون قصد، ولكنها في النهاية تحقق مبتغاها ونتحول تدريجيا إلى واقع نعاني من تبعاته، كما يحدث حاليا في البرامج التي انتشرت وأصبحت الرئة الرئيسية لأبنائنا، وهي تسمى برامج التواصل الاجتماعي، وأنا أراها في الحقيقة لا تمثل أكثر من ١٠ في المائة والبقية تشكِّل دنيا التباعد الاجتماعي. وإذا أردنا الحقيقة فعلينا النظر حولنا بتمعن فلن نجد أفراد الأسرة يتجمعون كما كان يحدث سابقا حول مائدة الحوار أو التلاقي الدائم والكل يُفضل الرسالة اليومية عن طريق رسالة نصية صغيرة “مسج”. ولي تجربة مريرة مع هذا الأمر حيث إنني كلما أجلس مع أفراد أسرتي، خصوصا في إجازتنا الأسبوعية بعد أن أخذتنا الحياة العملية طوال الأسبوع، أجد وبدون استثناء كل أفراد الأسرة يحمل هاتفه ومشغولا بمتابعة لعبة أو حديث مع أصدقاء أو رد على رسائل المدونين في صفحته، واقتصر الحديث بيننا على تحية السلام عليكم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
كما أن هناك مشاكل كبيرة تحدث من تلك البرامج منها مشاكل أخلاقية ونفسية وصحية أقلها ما أشارت إليه العديد من الدراسات إلى ارتباطها بأمراض الاكتئاب والقلق، ومشاكل النوم والأكل، وزيادة مخاطر الانتحار، وأصبح الجميع يعرفها ويقرأ عنها، وأن الأمر لا يقتصر عند هذا الحدِّ، بل إن هذه البرامج أصبحت تتطور أكثر وأكثر حتى أصبحت عينا مسلطة على كل من يستخدمها فتحولنا إلى “دمية” يتم التحكم في كل أمورها. وبتجربة بسيطة لمن يريد أن يتأكد عليك فقط أن تتحدث مع صديق عن اهتمامك بشراء شيء معين، ستجد على الفور بعد انتهاء المحادثة امتلأت الصفحة الخاصة بك بإعلانات عن هذا المنتج الذي كنت تتحدث عنه، ليتم وضعك تحت رقابة دائمة في كل ما تفكر وتنوي العمل به. وتطورت هذه البرامج لأكثر من هذا، فهناك أحد البرامج الذي فتح المجال للمراهقات ويبدأ بتشغيل أغنية “بلاي باك” وفقط يقوم بتحريك الشفاة والتمايل مع هذه الأغنية وكأنهم يؤدون الغناء، ليتم بهذه الطريقة محو الشخصية تماما وجعل المراهق سواء شاب أو فتاة مجرد مسخ للحقيقة، ضعيف الشخصية قاتل لموهبته أسير للأشياء، فيتم الخلط وعدم التفريط بين ما هو حقيقي “الصوت والموسيقى” وبين ما هو مزيف، فتنشأ أجيال ضاع منهم حلم الاختراع والإبداع بعد أن تخفى وراء إبداع الغير. وللأسف هذه البرامج انتشرت كالنار في الهشيم في مجتمعاتنا حتى أن أحد الأصدقاء روى لي أن عائلة يعرفها يقوم كل أفرادها بدون استثناء طيلة اليوم باستخدام هذا البرنامج، وقد تأثرت نتائجهم الدراسية بدرجة كبيرة، وأصبح عدم التركيز شائعا بينهم.
هذه نتيجة أننا لا نريد أن نسمى الأشياء بمسمياتها الحقيقية، بل نخترع لها مسميات أخرى أو بالأحرى نقبل أن تدخل على مجتمعاتنا مسميات نستطيع أن نقبل تداولها، وتكون النتيجة هذه المؤشرات الخطيرة على مجتمعاتنا وخصوصياتها الملتزمة أخلاقيا ودينيا وترفض أمور يقبلها الآخرين لطبيعة ثقافاتهم ومجتمعاتهم التي تختلف عنا كليًّا. نحن لا نريد أن نكون مثل الورقة تستطيع أي رياح ضعيفة أن تنزعها من جذورها لتسقطها في تيه العدم لتكون دمية أو لعبة تحقق أهداف الاخرين.


جودة مرسي
[email protected]
من أسرة تحرير «الوطن»