” .. بات واضحا بعد معاهدات السلام المصرية والأردنية وتفكك العراق والحرب في سوريا أن إيران هي الطرف المناسب للتعامل الأميركي. ودعونا من التصريحات النارية لقادة الصهاينة‘ فكل الخلاف على أنهم لا يريدون لواشنطن أن تكون الطرف الرئيسي في اتفاق يخصهم وعليهم هم فقط أن يكونوا في الطرف المتلقي.”
ــــــــــــــــــــــ
صحيح أن منطقتنا وحكومات دولها اعتادت في العقود الأخيرة على الرهانات الخاطئة، سواء في قضايا محلية أو إقليمية أو دولية، لكن الرهان على أهمية الغرب (وتحديدا الولايات المتحدة وأوروبا الغربية) ظل يحظى بأهمية ليس فقط لدى الحكومات بل أيضا لدى الشعوب والجماعات والقوى السياسية حتى لو أدعت شعاراتها غير ذلك. ولا عجب في ذلك في ضوء ما تتمتع به الولايات المتحدة من مكانة ونفوذ، خاصة بعدما تفردت بأحادية القطبية ما بعد نهاية الحرب الباردة قبل أكثر من ربع قرن. انما اللافت أن رهانات دول وجماعات منطقتنا تتسم بقدر كبير من قصر النظر وأحيانا "الخيبة" المثيرة للشفقة. وربما هذا ما جعل كثيرا من دول المنطقة الآن في حالة عدم اتزان من انفتاح الغرب على إيران واحتمال التوصل إلى صفقة أميركية/إيرانية قريبا، قد لا تقتصر على ملف البرنامج النووي الإيراني بل تشمل الكثير من قضايا المنطقة التي تتقاطع فيها مصالح أميركية/غربية مع المصالح الإيرانية. ولن يعني لك ـ إذا حدث ـ أن الولايات المتحدة "تخلت" عن حلفاء تقليديين في المنطقة بل ببساطة أنها تتعامل مع "حسابات مصالح" وليس "جبر خواطر"، والمشكلة مشكلة هم من يراهنون على "تحالفات دائمة" في العلاقات الدولية.
بالنسبة للدول، كان الرهان ولا يزال على أن لأميركا مصلحة أساسية في الحفاظ على منابع النفط في الخليج وضمان "أمن اسرائيل"، وبالتالي هي حريصة على علاقات طيبة مع دول الخليج العربية وعلى علاقات قوية مع ما تسمى "دول الطوق" وتحديدا الأردن ومصر. وفيما يتعلق بالنفط وحمايته، ليس المقصود حماية امدادات نفط خليجية للولايات المتحدة، وإنما مصلحة واشنطن في أن تكون "حارس مفتاح" لمصدر الطاقة الرئيسي المحرك لاقتصادات أوروبا وآسيا ـ أي بمعنى آخر الاقتصاد العالمي. لكن الأمور وصلت الآن إلى حد لم يعد فيه أهمية كبرى لذلك الحارس، فالدول المنتجة والمصدرة حريصة على حماية مصادر ثروتها أيضا وكذلك سوق الطاقة لم يعد كما كان قبل ثلاثة عقود. وإن كان ذلك لا يعني عدم أهمية مصادر النفط في المنطقة بالنسبة لواشنطن، لكن في ظل سياسة "فك ارتباط" تعتمدها منذ سنوات فليترك الأمر إذا للشركات الكبرى القادرة الآن على إدارة علاقاتها مع حكومات دول المنطقة.
أما ما يتعلق بإسرائيل، فقد بات واضحا بعد معاهدات السلام المصرية والأردنية وتفكك العراق والحرب في سوريا أن إيران هي الطرف المناسب للتعامل الأميركي. ودعونا من التصريحات النارية لقادة الصهاينة‘ فكل الخلاف على أنهم لا يريدون لواشنطن أن تكون الطرف الرئيسي في اتفاق يخصهم وعليهم هم فقط أن يكونوا في الطرف المتلقي. لكن في النهاية لا يزعج اسرائيل سوى جبهات مرتبطة بإيران: حزب الله في لبنان، الوضع السوري والتدخل الإيراني فيه، جماعات مسلحة مرتبطة بإيران في غزة ... الخ. وإذا كانت بعض دول المنطقة ترى في التقارب الأميركي الإيراني تراجعا لدورها الإقليمي فتلك مشكلتها وتتعلق أساسا بحساباتها ورهاناتها التي لم تحقق لها ما تريد. كما أن الأميركيين، والغرب عموما، لن يستبدل حليفا إيرانيا بحلفاء عرب بل ربما يكون الأفضل لمصالحه أن يحافظ على علاقات مصالح مع الجانبين ـ وقد يضاف إليهما التركي أيضا إذا دعت الضرورة. والواقع، للأسف، ان الجانب التركي يبدو الأكثر براجماتية في حسابات مصالحه ورهاناته بحفاظه على قنواته مفتوحة إيرانيا وعربيا ـ وبالطبع اسرائيليا ـ والموازنة بينما ينشطه وما يهدئه على حسب اتجاهات الاستراتيجية الاقليمية للغرب وأميركا تحديدا.
الخلاصة إذا هي في رهاناتنا، وفي القلب منها الرهان على الغرب. وإذا كانت الدول يمكنها التعويض عن ذلك فإن القوى والجماعات لا تملك تلك الأدوات التي تملكها الدول والحكومات. وعلى عكس ما يبدو من ان الجماعات التي ليست في السلطة قد تتوفر لها مرونة أوسع وخيارات افضل في علاقاتها مع القوى الاقليمية والدولية فالواقع أن تلك الجماعات تحكمها رهاناتها ربما اكثر من الدول والحكومات. ولعل في نموذج جماعة الإخوان المسلمين مثال واضح على ذلك، خاصة رهانها على الغرب وأميركا تحديدا ايضا. فجماعة الإخوان، والجماعات التي خرجت من عباءتها، طالما اتهمت الغرب بأنه يستهدفها (مدعية استهدافه للإسلام باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للدين الحنيف!!) ويضيق عليها بتحالفه مع الأنظمة الحاكمة في الدول التي ينشطون فيها ويريدون تحويلها إلى حكم إخواني. لكن الإخوان كرروا الموقف ذاته للحكومات التي يسعون للحلول محلها، خاصة في الرهان على الغرب، وحاولوا تسويق أنفسهم باعتبارهم "أقدر على حماية مصالح الغرب من الأنظمة التقليدية في المنطقة".
وإذا كانت الحكومات، باعتبارها في السلطة، تستند ـ ولو بالتزوير والادعاء أحيانا ـ إلى تفويض شعبي بأنها تمثل مجتمعات دولها في التحالفات الاقليمية والدولية فإن جماعة الإخوان لم تلق لذلك بالا. بل على العكس، أمعنت في استجداء دعم الغرب أكثر من التوجه نحو جماهير المجتمعات التي ينشطون فيها ـ خاصة تلك القطاعات غير الإخوانية وغير المتعاطفة معهم. وكان للتوجه الإقصائي الذي يسبغ سلوك الإخوان الأثر الأكبر في عدم اقناعهم الغرب بقدرتهم على ان يكونوا حليفا مفيدا. ولم يبق أمام الإخوان الآن سوى ذلك الرهان ـ على الغرب واميركا ـ وكل أملهم ان يساعدهم طرف اقليمي تتقاطع مصالحه مع الغرب واسرائيل مع تطلعاتهم: تركيا.

د.أحمد مصطفى* كاتب صحفي مصري