إخواني الأعزاء.. إن المولد النبوي الشريف المعجز في حد ذاته هو نفحة ربانية قد أعم بها الكون، منها يفتح الله قلوبًا غلفًا، وأبصارًا عُميًا وأسماعًا صمًّا، ويذهب بها فسدة جهّالًا، وأوجاعًا عضالًا، وعلى الكافرين خيبة ووبالًا، وللمؤمنين رحمة وأفضالًا، ولا نزال نقتبس من أنوارها، ونشتم من صفاء عبيرها، ونرتشف من رقراق مائها، وقد توقف بنا الحديث عند استراق الشياطين للسمع من عنان السماء الذي توقف بإطلالة محمد (صلى الله عليه وسلم) النورانية ومولده، فقد توقف مجرد الاقتراب من السماء من لدن الشياطين، (وهذا لم يكن ظاهراً قبل أن يبعث الرسول ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم ـ ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمانه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساساً لنبوته ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم) (اللباب في علوم الكتاب 11/ 440).وقد منع الجن على مراحل من التطلع إلى أحاديث الملائكة في السماوات، يقول صاحب (إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم 5/ 71):(عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن الجن كانوا لا يحجبون عن السموات، فلما وُلد عيسى ـ عليه السلام ـ مُنعوا من ثلاث سموات، ولما ولد النبيِّ محمد ـ صلَّى الله عليهِ وسلم ـ مُنِعوا من السموات كلِّها، واستراقُ السمعِ أو اختلاسُه سرًّا، وقوله تعالى:(وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا) (الجن ـ ٩)، قال: غُلّظت وشُدّد أمرُها حين بعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم)، وقال ابن قتيبة:(إن الرجمَ كان قبل مبعثِه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن لم يكن في شدة الحِراسة كما بعدَ مبعثه ـ صلى الله عليه وسلم).فقد كان مولده ومبعثه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ إنقاذ للعالم بعد خراب الأنظمة وفساد الزمم وضياع الملة وانتشار النحلة وطغيان الطغاة وكثرة البغاة وظلم القوانين، وكانت هناك استراتيجية للمكان فحتى يصدقه العالم كان خروجه يستلزم أن يخرج من مكان لا حاكم يحكمه، وملا ملك يسيطر عليه، كما كان حال الفرس والروم حتى لا يقال أنه يريد حكما وينازع أهله عليه، وكانت هناك استراتيجية علمية فخروجه (صلى الله عليه وسلم) للعالمين كان يستلزم أيضًا أن يخرج من مكان لا علم فيه ولا حضارة ولهذا كان العرب يسميهم الناس بالأميين، حتى يتثنى له نشر دعوة الإسلام، فيؤسس علومًا وحضارة تقوم على أساس إسلامي صحيح، فضلًا عن الاستراتيجية المنذرة للطغاة والفاسدين قبيل إهلال نوره (صلى الله عليه وسلم)، فقد كان هناك الكثير من الحادثات الاستثنائية التي رافقت مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، تنطوي في ذات نفسها على دلالات عظيمة، ففي نفس العام الذي ولد فيه الرسول (صلى الله عليه وسلم) شيد زعيم اليمن النصراني كنيسة فخمة في عاصمته، صنعاء، رجاء أن يحوّلها الى ملاذ روحيّ، بدلًا عن الكعبة التي كان قد عقد العزم على هدمها، ولقد كان ذلك في الواقع صراع حياة أو موت بين التثليث والتوحيد، هكذا سار ذلك الزعيم أبرهة ـ الأشرم ـ على رأس جيش عظيم قاصدًا مكة لكي يدكّها دكًّا، وعسكر على مبعدة ثلاث مراحل من مكة، وبعث إلى المكيين رسولًا يبلغهم الغرض الذي من أجله جاء، وفي غضون ذلك احتجز رجال أبرهة مئة بعير لعبد المطلب، فلم يكن من عبد المطلب إلا أن وفد بنفسه على أبرهة ليسأله ردّ إبله، وتأثر أبرهة تأثرًا عظيمًا بمظهره المهيب، فسأله ما الذي دعاه إلى الوفود عليه؟ معتقدا من غير ريب أنه أقبل ليلتمس منه الإبقاء على البيت الحرام، فأجابه عبد المطلب إنه إنما أقبل ليسأله ردّ إبله، فعجب أبرهة لهذا الجواب غير المتوقّع وأبدى استغرابه لقلق عبد المطلب البالغ على إبله، ولعدم قلقه على الكعبة قائلًا لترجمانه: قل له لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدت فيك حين كلّمتني، أتكلّمني في مئة بعير أصبتها لك وتترك بيتًا هو دينك ودين آبائك قد جئت لأهدمه ولا تكلمني فيه؟، فقال له عبد المطلب: إني أنا ربّ الإبل، وإنّ للبيت الحرام ربًّا سيمنعه، وإذ وجد القرشيون انفسهم أضعف من أن يقاوموا ابرهة أخلوا مكة ونصبوا خيامهم في الكثبان المجاورة، وفيما هم يغادرون مكة أخذ عبد المطلب بستار من أستار الكعبة، وراح يستنصر الله قائلًا:(اللهم هذا بيتك إننا نشعر أننا أضعف من أن نحميه، فتولّ أنت حمايته بنفسك)، ويقول المؤرخون أن الجدري تفشّى في غضون ذلك بجيش ابرهة محدثا في صفوفه ذعرًا رهيبًا، مهلكًا القسم الأعظم من رجاله، أما سائره فلاذ بالفرار في اختلاط كامل وفوضى مطلقة.واليك وصف القرآن الكريم لهلاك جيش أبرهة:(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ، أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ، وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ، تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ) (الفيل 1 ـ 5)، وهذا يظهر أن الجيش ولى الأدبار في ارتباك شديد إلى درجة جعلته لا يتريث لحظة حتى يدفن جثث القتلى، فأمست طعامًا للنسور.. وغيرها من جوارح الطير، وقد وقعت هذه الحادثة الأعجوبية في آن واحد مع مولد الرسول الكريم، وتقول بعض الروايات أن هزيمة أبرهة تمّت بالذات يوم مولد الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه وسلم)، فكانت استراتيجية حادثة الفيل والتدخل الإلهي إنقاذ بيت الله الحرام أول بيت وضع للناس من سوء استخدامه وتطهيره من الأصنام، التي كانت تملأ المكان، فالله تعالى له الحق أن ينقذ بيته وعباده من تلك الأصنام والأوثان التي اصنعها عملاء الشيطان لتضليل الناس وإفساد اعتقادهم وعقولهم أيضا أليس الاعتقاد بأن حجرًا ينفع ويضر هو فساد عقلي، يقول ابن عبّاس: (إنه ولد يوم الفيل. ويقول آخرون انه ولد قبل الفيل بخمس عشرة سنة: ويذهب غير هؤلاء إلى أنه ولد بعد الفيل بأيام أو بأشهر أو بسنين، يقدّرها قوم بثلاثين سنة؛ ويقدرها قوم بسبعين) (المرجع السابق، ص: 79).ولو تأملنا الاستراتيجيات التي سبقت مولده (صلى الله عليه وسلم) لوجدناه لا تحصى، فمثلًا نجد أنه (وبعد أيام قليلة انقضت على زواج أبيه من أمه، يخرج عبد الله في رحلة تجارية إلى الشام، فبينما هو عائد من رحلته تلك مرض بالمدينة وتوفي فيها. وهكذا يولد الرسول الكريم يتيم الأب، ثم تموت أمه وهو لا يزال في السادسة من العمر، وبذلك حرم حدب الأبوين وعنايتهما، ومع هذا فإنه لم ينشأ على أسمى الفضائل الخلقية فحسب، بل كان أعظم معلّم لمكارم الأخلاق، ولم تشأ الأقدار له أن يفيد من المنافع التي تعود بها الثقافة الكتبية على أصحابها، ومع هذا فقد ترك للعالم تراثًا غنيًا من الحكمة البالغة لا يزال حتى يوم الناس هذا ينتزع الاحترام والاعجاب الكليّيّن، ويوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول، هو عند جمهور العلماء يوم ميلاد الرسول الكريم. وقد انتهى تحقيق علميّ آخر إلى جعله في اليوم التاسع من الشهر نفسه، وهو يوافق اليوم العشرين من نيسان “إبريل” عام 571 من التقويم الميلادي، وقبل مولد الرسول، تلقّت أمه آمنة النبأ السعيد في رؤيا، ويرشح من بعض أحاديث الرسول أن جدّه عبد المطلب سماه محمدًا، وأن أمه سمّته أحمد، وقد فعل كل منهما ذلك تبعًا لرؤيا رآها، ولقد تحدث القرآن الكريم عنه بالاسمين معًا، ويروى أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عن نفسه: أنا محمد وأحمد في آنٍ معًا) (حياة محمد ورسالته، ص: 53).ولهذا ينبغي علينا نحن المسلمين أن نفرح بهذه المناسبة وأن ندخل السرور على أهلينا ونشعرهم بهدية الله تعالى لنا هذا النبي الكريم، وإذا كان أبو لهب يخفف عنه العذاب كل يوم اثنين لفرحه بمولد المصطفى محمد، فما بالكم بنا نحن المسلمون ونحن نحبه أكثر من أنفسنا وأهلينا والناس أجمعين، جاء في كتاب (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 1/ 366): (قال شيخ القراء الحافظ أبو الخير ابن الجزري ـ رحمه الله تعالى: قد رئي أبو لهب بعد موته في النوم فقيل له: ما حالك؟ فقال: في النار إلا أنه يخفّف عني كل ليلة اثنين وأمصّ من بين إصبعيّ هاتين ماءً بقدر هذا - وأشار لرأسي إصبعيه - وإن ذلك بإعتاقي لثويبة عند ما بشّرتني بولادة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبإرضاعها له. فإذا كان أبو لهب الكافر الذي نزل القرآن بذمّه جوزي في النار لفرحه ليلة مولد محمد ـ صلى الله عليه وسلّم ـ فما حال المسلم الموحّد من أمة محمد ـ صلّى الله عليه وسلم ـ ببشره بمولده وبذل ما تصل إليه قدرته في محبته؟ لعمري إنما يكون جزاؤه من الله الكريم أن يدخله بفضله جنة النعيم).. وأخيرًا اجعل أوقات فراغك صلاة على رسول الله. * محمود عدلي الشريف [email protected]