إن إيماني العميق بعُمان بلدا سياحيا متفردا متنوعا في مُكوِّناته ومعالمه ومواقعه السياحية الثرية، تأسس على دعامات من تطوافي الواسع والشامل لمعظم ولايات ومناطق وقرى وجبال وشواطئ عُمان..
في عمري المبكر كنت أصغي لبعض آبائي وهم ينشدون أبياتا غزلية للشيخ الأديب المؤرخ، أبي بشير محمد بن عبدالله السالمي، مطلعها: “زاد الغرام شنشنة * ظبي تربى في شنه * واستوقفته مهجتي * سويعة ما أمكنه * فلا ترى من لفظه * كلمة مستهجنه... إلى آخر القصيدة، ويعيدون أسباب نظمها إلى فتاة بدوية فاتنة الجمال، حملت معها أغنامها لبيعها في هبطة الثامن من ذي الحجة بسوق المضيرب، فلفتت بجمالها وفطنتها وذكائها وجرأتها وبلاغة حديثها الشاعر، على إثر حواره معها، فأنشد تلك الأبيات البليغة. وظلت “شنه” حاضرة على الدوام في بالي أتخيل موقعها في قمم الجبال، وجمال فتياتها وطبيعتها الفاتنة، وبقيت أبيات هذه القصيدة محفوظة في خزانة ذاكرتي. وفي الآونة الأخيرة أطلت عليَّ “شنة” من فضاء روَّاد وسائل التواصل، بمقاطع فيديو وصُوَر وتغريدات عنها، وكذلك للـ”مضيق” و”ساقه” المتجاورات، التابعات لولاية القابل، وقد فتنت بتلك المناظر الخلابة والبرك المائية الصافية، والمياه المتدفقة والهدوء الأسر والأراضي المنبسطة والطبيعة الجميلة، وشعرت بتأنيب المقصِّر، لكوني لم أبادر إلى زيارة هذه المواقع المهمة، وهي جزء من ولايتي التي عشت فيها مرحلة الطفولة وظللت أتردد عليها طوال العقود الأربعة الماضية، فكيف لم أزر جميع مناطقها وقراها ومواقعها السياحية حتى اليوم، وفوَّتُ على نفسي الاستمتاع بكل هذا الجمال الذي أتابعه من خلال ما تعرضه لنا عدسات الهواتف النقالة والكاميرات؟ وفارق عظيم بَيْنَ الصورة والحقيقة، الخيال والواقع. وقبل أسابيع من إعداد هذا المقال، وجدت الفرصة مهيأة، فنسقت مع ابني محمد للقيام بجولة سياحية نزور فيها هذه الأماكن الخلابة، ونعبر منها إلى قرى إسماعية والخبة وغبرة طام ومحلاح مركز ولاية دما والطائيين، وعشرات القرى الأخرى التابعة للولاية. من قرى “وادي نام” النبأ، المعترض، الصرم، المنجرد وبطين... يعرج الشارع المعبد شرقا، إلى قرية “شنة”، كانت واحات النخيل تتدلى بعذوقها من أصفر وأحمر الرطب، والأفلاج في تلك القرى تتدفق بالمياه تنقلها السواقي بانسيابية إلى البساتين والمزارع التي تجود بخياراتها الوفيرة من الرطب والمانجو والليمون والسفرجل والجح والبطيخ والخضراوات... في شنة وساقه تسقي جداول الأودية “الغيل” ـ التي تجتمع وتفترق مشكلة عددا من الجداول، ثم تلتقي في مسار واحد من جديد ـ البرك المائية الصافية، التي تشكلت بَيْنَ وفي دواخل جنبات الكهوف والتصدعات الصخرية والأخاديد والمنحدرات الحادة والأحجار الشاهقة الضخمة والملساء. من موقعي الذي أسجل منه ملاحظاتي وانطباعاتي لغرض كتابة هذا المقال، أرى غابات النخيل التي يناطح بعضها قطع الغمام الشاردة، على حافة الوادي من الشرق، والبساتين المزدانة بأشكال وأنواع من الأشجار التي تتدلى منها الثمار المختلفة الألوان والأحجام ومستوى النضج، وفي جهة الغرب يبرز كهف ضخم يتسع لعشرات الأشخاص، مع مجموعة من التجاويف في الجبال، والصخور العملاقة التي يعلو بعضها بعضا في ألوان وأشكال متناسقة، ومن الشمال حيث تتدفق مياه وادي “سوي” المتجه إلى قرى ولاية القابل ومصبه النهائي في بحر العرب، تكاد الطريق تنغلق أمام سيرنا البطيء، فالبرك المائية والأحجار الضخمة تعيق التحرك إلا من لديه المكنة والقوة وحس المخاطرة، فالمكان يبعث على الإدهاش، ويدعو إلى التوغل في الدواخل، حيث منابع المياه الرئيسية، ومواصلة تتبع واكتشاف تلك الشقوق والمجاري، فلا شك بأن الكثير من تفاصيل الطبيعة وأسرارها وجمالها وتشكيلاتها وعناصرها وعجائبها توجد في أعماق الأعماق، وفي الجنوب تتحرك الجداول المائية على مرايا صخرية، ظهرت في السطح على شكل صفحات ورقية ممزقة تنزلق بَيْنَها المياه، فتضيف جمالا إلى الجمال الطبيعي الذي صوره الخالق بهذا التناسق والتنوع حد الإبهار، وعلى مقربة من الصحائف الصخرية تشكلت بحيرات ضخمة يستمتع بمياهها بضعة صبية عبروا في وضعيتهم تلك عن هذه الجنة الأرضية التي استحوذ جمالها على مشاعرهم وأحاسيسهم غير عابئين بكل ما في الحياة من لذائذ أخرى، انتقينا مكانا استثنائيا تحيط به الجداول المائية والبرك التي تنعكس على صفحتها بضعة غيوم شكلها التقاء الرياح الحارة وامتزاجها بالنسمات العليلة الباردة، لتناول الإفطار الصباحي المكوَّن من رطب “الخصاب” الذي نودع بحصاده أشهر الصيف القائظ، و”القريصات العُمانية بالعسل” واحتساء فناجين القهوة، في مكان لا يود المرء بحق مفارقته. من هناك أخذنا الطريق الشرقي، الرابط بَيْنَ ولايتي إبراء والقابل من جهة، وقرى إسماعيه والخبة وغبرة الطام التابعة لولاية دما والطائيين، والتي تتوغل في دواخل الجبال الشاهقة بَيْنَ صعود وهبوط، وينتهي في قرية السفرجل “بعد”، و”الجرداء”، المنطقة التي يلتقي فيها شارع الطائيين بالشارع الرئيسي “بدبد ـ صور”، عندما وصلنا مركز قرية “إسماعيه”، أبهجنا واديها الخصب الذي تجري فيه المياه بغزارة وصفاء متجهة إلى غبرة الطام، حيث محيط التقاء الأودية الرئيسية الثلاثة “إسماعية ودما والطائيين” التي تصب فيها عشرات الأودية الفرعية والشعاب متجهة في مجملها إلى المجرى الرئيسي نحو سد “ضيقة”، الذي يختنق مجراه ويضيق كلما تقدم، فيصب في أخدود عميق يحتشد بالكهوف والأخاديد والتصدعات والمنحدرات والصخور العملاقة البيضاء والملساء، في مسار لا تكاد الشمس ترى فيه حتى في رابعة النهار، ومن قرية الغبرة، حتى موقع السد، يعد هذا المكان من أجمل وأروع المناطق السياحية في سلطنة عُمان، ويمكن استثماره لأشكال وأنواع من السياحة، المخاطرة والاستجمام والرياضة والتلفريك... فالمياه هنا في حالة جريان طوال العام، والطبيعة البكر لافتة للأنظار تفتن العقل وتبهج النفس والقلب وتحافظ على الصحة وتعالج الأمراض النفسية. نزلنا بسيارتنا في مجرى الوادي وأخذنا مسار المياه إلى قرية الغبرة، نستمتع بالمناظر البهيجة، حيث الشلالات تدفق من سواقي الأفلاج المعلقة في سفوح الجبال إلى بطن الوادي، والجداول تأخذ حافة الوادي من شماله تارة، وتنحرف إلى جنوبه أخرى، وتجري في وسطه مرة، تجتمع في جدول ضخم أو تتناثر وتنشطر إلى جداول صغيرة، ومجرى الوادي يكون حصويا، ويتحول إلى حجر صلد أو طيني من مكان إلى آخر في مشاهد تتنوع وتتكامل، والقرى ببساتينها ونخيلها تسر الناظرين، فيا لهذا الجمال الطاغي الذي يفيض بهجة وفتنة وعذوبة. في قرية “غبرة الطام”، اخترنا جزيرة صغيرة تحيط بها المياه المتدفقة من يميننا وشمالنا، وافترشنا مسيلتها المبللة بالندى، وتناولنا غداءنا وجلنا وتفسحنا في أرجاء المكان مبتهجين جذلين. واصلنا بعد الساعة الخامسة مساء طريقنا إلى قرية “محلاح” مركز الولاية، وكلما اعتقدنا بأننا تخطينا الدرجات العلا من الدهشة والانبهار، التي لا يماثلها مماثل، فاجأتنا المشاهد بما يزيد عليها، في طريق يتجاوز طوله الـ”60” كيلومترا. إن إيماني العميق بعُمان بلدا سياحيا متفردا متنوعا في مُكوِّناته ومعالمه ومواقعه السياحية الثرية، تأسس على دعامات من تطوافي الواسع والشامل لمعظم ولايات ومناطق وقرى وجبال وشواطئ عُمان، وشغفي بتكرار الزيارات مرات ومرات، واستمتاعي بمشاهد الطبيعة البكر التي تتميز بها بلادي، فكتبت ونشرت عشرات المقالات جمعها كتابي “أرض عُمان: مشاهدات وخلاصات”، التي تناولت وصفا تفصيليا لتطوافي، وتحدثت عن همِّ السياحة في عُمان، وقدمت عشرات الملاحظات والأفكار ذات العلاقة بهذا الملف المهم، ولولا البنية السياحية الهشة، والاستثمار الهزيل، ونقص الخبرات، وإهمال التوظيف الجيد في المواقع المتميزة، والتسويق السياحي شبه المعدوم... لكانت عُمان اليوم واحدة من الدوَل المُتقدِّمة في مؤشِّرات السياحة التي يقصدها العالم من كل مكان، وكانت مواردنا المالية منها مرضية والوظائف في هذا القِطاع متوافرة بسخاء. فحتى متى سنظل نهدر ثروتنا السياحية بالتغاضي والتسويف وتغليب التنظير والبرامج والخطط على التنفيذ والعمل والتطبيق؟

سعود بن علي الحارثي
[email protected]