يبدو لي أن سبب هذا التدهور الملحوظ في رؤيتنا أو رؤية هؤلاء الأطفال واضحا: ما عليك سوى أن تنظر من حولك لترى عددا لا يحصى من الأطفال منغمسين في الهواتف والأجهزة اللوحية وأجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) المحمولة.
في بداية العام الدراسي الجديد لأبنائنا الطلاب، وبينما تعتريك لحظات عابرة من الماضي وأنت ربما تقف في إحدى تلك المدارس التي درست بها في طفولتك، تنظر إلى البراءة من حولك، فتلاحظ معي شيئا غير عادي عند الأطفال، وتلامذة المدرسة، وهو أن معظمهم بات يحتاج إلى نظارات، وفي الأعمار الأصغر والأصغر سنًّا. وبشكل سريع عند الاستفسار، كان لدى العديد من هؤلاء الأطفال آباء يتمتعون برؤية مثالية، وقد حارني صراحة انخفاض بصر أطفالهم!
صحيح أن قصر النظر هو حالة وراثية، يرى الأشخاص المصابون الأشياء البعيدة بشكل مشوَّش وغير واضح. بل ويتضاعف حدوثه مع وجود أحد الوالدين مصابا بقصر النظر، وبالتالي احتمال احتياج الطفل إلى النظارات، في حين وجود والدين يعانيان من قصر النظر، يزيد خمس مرات من فرص قصر النظر لدى طفلهما!
من ناحية أخرى وعندما ترى في الدراسات الطبية المتفرقة وخلال سنوات ماضية على مستوى العالم، تلاحظ بأن نسبة المراهقين والشباب المصابين بقصر النظر قفزت من الربع تقريبا إلى أكثر من ٨٠ في المائة في ما يزيد قليلا عن نصف قرن. وهنا تساؤلي حقيقة ـ بالرغم أنه ليس لدي دراسة حقيقية في هذا السياق ـ هل عمليات الإغلاق الوبائي الأخيرة جعلت البصر بين الأطفال أسوأ؟ خصوصا وأنه من المستحيل إنكار نطاق المشكلة وسرعة التغيير التي مررنا به خلال السنتين الماضيتين.
ولعلِّي أسلط الضوء على هذا الموضوع؛ لأن عواقب هذا الاتجاه أكثر خطورة من زيادة عدد الأطفال الذين يرتدون نظارات طبية. حيث تصبح العيون قصيرة النظر عرضة لمشاكل خطيرة مثل الجلوكوما وانفصال الشبكية في منتصف العمر، وهي حالات يمكن أن تسبب بدورها العمى الدائم. وهنا يجب أن نعي أن هكذا حالات قد تبدأ المخاطر صغيرة لديهم، ولكنها ترتفع بشكل كبير مع الآثار الطبية الأعلى.
وهنا يبدو لي أن سبب هذا التدهور الملحوظ في رؤيتنا أو رؤية هؤلاء الأطفال واضحا: ما عليك سوى أن تنظر من حولك لترى عددا لا يحصى من الأطفال منغمسين في الهواتف والأجهزة اللوحية وأجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) المحمولة. ولن تكون أول من يستنتج أن التحديق في شيء على بعد بوصات من وجهك يضر بالرؤية عن بُعد. الغريب بالأمر أنه منذ زمن ليس بالبعيد، كان الناس صيادين وجامعين لقوتهم بالزراعة مثلا، واعتمدنا على رؤيتنا الحادَّة عن بُعد لتتبع الصيد والعثور على الفاكهة الناضجة. بينما لأن حياتنا الحديثة عن قرب وفي الداخل! فأصبحنا نحصل على الطعام من خلال النظر القريب والتحديق الطويل في ذلك التطبيق لطلب وجبة ما؟!
وهذا بشكل صريح يقودني للتساؤل قائلا: هنالك شيء ما في الحياة الحديثة يدمر قدرتنا على الرؤية بعيدا... أوَلَيس كذلك؟ وبالرغم من أن تلك الدراسات والنظريات المرتبطة بأسباب قصر النظر متعددة، وأيها كان صحيحا، ما يهمني بالفعل واستخلاصه حول ما هو الأفضل لرؤية الأطفال وأُذكِّر به هو: وقت أقل في الانحناء على الشاشات، ووقت أطول في الأنشطة الخارجية.
صحيح أن النظارات والعدسات الطبية، وكذلك جراحة الليزر تساعد الأشخاص الذين يعانون من قصر النظر على الرؤية بشكل أفضل. لكن أيا من هذه الإصلاحات قد لا يصحح كليا المشكلة التشريحية الأساسية لقصر النظر.
ختامًا، قد لا نعرف بالضبط كيف تؤثر علينا الشاشات طوال اليوم وقضاء الكثير من الوقت في الداخل، أو التي تسبب المزيد من الضرر، لكننا نعلم أن قصر النظر ـ إن استطعت القول ـ هو نتيجة واضحة للعيش بعكس بيولوجيتنا. لذلك يجب أن نعزز عادات الرؤية الأفضل، مثل الحدِّ من وقت الشاشة واللعب في الخارج. كما أحثُّ هنا وزارة التربية والتعليم وبالتنسيق مع وزارة الصحة على إجراء استقصاء وبحث لهذا الموضوع على مستوى مدارس سلطنة عمُان، فكلما بدأت في إبطاء تقدم قصر النظر عند الأطفال مبكرا، كانت النتيجة أفضل.


د. يوسف بن علي الملَّا
طبيب ـ مبتكر وكاتب طبي
[email protected]