مع ما يرتبط بموضوع الحافلات المدرسية من تحدِّيات وعقبات والتزامات، ويرتبط به من أبعاد اجتماعية ومعيشية، ويتطلبه من إجراءات وآليات عميقة، إلا أن ما يشهده واقعنا التربوي في كل عام من حوادث الطلبة في الحافلات المدرسية وبخاصة ما يتعلق منها بحالات الدهس أو كذلك نسيان الأطفال في الحافلات يدق ناقوس الخطر. ولعل الحالة المروعة التي أفاق عليها المجتمع التربوي لأول يوم من أيام هذا العام الدراسي بوفاة الطالبة حور السدية، يطرح الكثير من التساؤلات ويضع العديد من علامات الاستفهام الكبرى على هذا الملف وما وصل إليه من احتقان والحلقة المفرغة التي ما زال يعالج فيها دون التفكير خارج الصندوق منذ أكثر من خمسة عقود. ولعل ما يصنع من هذا الموضوع حس الإنسانية وصدق الإرادة هو تلك المآسي وحالة القلق والرعب التي باتت تحملها هذه الحوادث المتكررة في حياة الطلبة والأسرة، وما ينتج عنها من آثار سلبية وقناعات غير مريحة ورود فعل غاضبة في الشارع الوطني، في إشارة إلى حالة البطء والقصور التي يعيشها هذا الملف، نظرا لارتباطه بفلذات الأكباد وباتت ضحاياه أطفال المدارس في سن الزهور، ليعيش الأطفال رعب الحافلات بين دهس ونسيان في الحافلة أو سقوط منها، أو تدافع بداخلها أدَّى إلى إصابته أو اعتداء نظرا للازدحام والتكدس الحاصل فيها، لتتبدل فرحتهم وأسرهم بالدراسة والعودة إلى المدارس إلى مأساة وحزن وفراق تذوق الأسرة جرائه الألم والصدمة فـ”إنا لله وإنا إليه راجعون”، الأمر الذي كان له انعكاساته السلبية، خصوصا أن ما يحصل من مشاهد وسيناريوهات في أحيان كثيرة إنما يكون أمام أعين الطلبة وناظريهم ومشاهد الدهس والموت بين أعينهم لتبقى في أذهانهم واستحضار المشهد سنوات عدة مع ما يكون له من تأثير في حياة الطالب والقناعة التي ترافقه في مواقفه التي يصادفها أو يتعامل معها في المستقبل.ورغم الجهود المبذولة من قبل جهات الاختصاص في تعزيز السلامة الوقائية للطلبة في الحافلات المدرسية، وتوفير مشرفات للطلبة في دور الحضانة والصفوف الأولى، أو ما تم اتخاذه من إجراءات تتعلق برفع سقف معايير السلامة في الحافلات المدرسية والتواصل المستمر بين المدارس وسائقي الحافلات في مناقشة ضوابط سير النقل، والتأكيد على ضرورة تطبيق اشتراطات الأمن والسلامة فيها، والتقيد بالأنظمة والقوانين الصادرة في هذا الشأن، إلا أن استمرار هذه الحوادث ـ رغم تدخل عوامل أخرى فيه ـ يلقي بظلاله على دور وزارة التربية والتعليم وتحديدا سائقي الحافلات المدرسية، فإن واقع الاستهتار من بعض سائقي حافلات المدارس، والسرعات الزائدة، والتأخير الحاصل من بعضهم في إحضار الطلبة إلى المدارس، والنزعة الذاتية لدى بعضهم في عدم إيصال الطلبة إلى بيوتهم أو مواقع آمنة لهم بحجة زيادة عدد الطلبة وتباعد الروافد التي يقلها عن المدرسة إلى غير ذلك من الأعذار، ناهيك عن أن عدم تعاون بعض سائقي الحافلات المدرسية حتى مع الحالات الخاصة ـ الأشخاص ذوي الإعاقة أو غيرهم ـ وتعمد إيقاف الطالب أو الطالبة بعيدا عن مسكن أو مكان إقامته وإلزامه بقطع الشارع، أصبح يشكل هاجسا مقلقا لأولياء الأمور، الذين أبدوا عدم ارتياحهم لمثل هذه الممارسات. وعلى الرغم من تكرار النداءات والمخاطبات والزيارات التي يقوم بها أولياء الأمور لمدارس أبنائهم في سبيل متابعتهم بشأن تصرفات سائقي الحافلات وسرد هذه الوقائع لهم، إلا أنها لم تجد أية استجابة من قبل المدارس وسائقي الحافلات، وظل واقع الأمر على حاله، الأمر الذي نعتقد بأنه أحد الأسباب التي باتت تقف خلف حوادث الدهس التي يواجهها طلبة المدارس.من هنا، تتجه الأنظار وتتوحد النداءات إلى أهمية إيجاد معالجات جادة لهذا الموضوع، وحتى لا تتكرر حادثة حور السدية وغيرها من الحوادث المماثلة التي راح ضحيتها أطفال أبرياء، لتتخذ هذه الإجراءات أشكالا متعددة وأدوات تبرز حجم الأثر الناتج عن استمرار هذه الحوادث، وعبر تشديد العقوبات على سائقي الحافلات المدرسية من خلال محاكمات جزائية تبرز شناعة هذا الجرم الحاصل في ظل عدم تقيد سائق الحافلة بأنظمة السلامة والأمان في الحافلة أو عدم التزامه الشخصي بالتعليمات اليومية التي توجَّه لهم من قبل إدارات المدارس، وحالة الاستهتار الممارسة من قبل بعضهم التي تظهر في عدم مبالاته بمقترحات الطلبة أو أولياء الأمور أو حتى إعارة الانتباه للتعليمات الصادرة من إدارات المدارس بهذا الخصوص، والنظر إلى هذه المسألة في إطار عمل ثانوي يؤديه المواطن مالك العقد أو السائق الآخر المؤجر، لذلك يقل ذلكم الاهتمام أو الحماس أو الشعور بالمسؤولية نحوه، ويؤديه كسلوك معتاد وليس كوظيفة أو مسؤولية أو رسالة وطنية وفق عقود وضوابط والتزامات وواجبات يؤدي الإخلال بها وتهاونه فيها إلى حرمانه منها ونقل هذا الاستحقاق لآخر يثبت التزامه بالتعليمات والشروط التي تقرها وزارة التربية والتعليم مع جهات الاختصاص الأخرى. وفي تقديرنا الشخصي، فإن قصور مسار المتابعة وعدم استدامته، أو وضوح إجراءات المتابعة وآليات العمل وغياب التشريعات والقوانين النافذة في هذا الشأن، والافتقار إلى الصلاحيات والممكنات التي تتيح للمدارس تنفيذ الأحكام وقواعد العمل في فسخ عقد العمل مع صاحب العقد في حالة عدم التزامه بالإجراءات المنصوص عليها، الأمر الذي نتج عنه تدني مستوى المتابعة الفنية والضبطية والرقابة على سلوكيات سائقي الحافلات في أثناء قيادة الحافلات وحالة التجاهل للملاحظات التي تصل إلى الوزارة من قبل المدارس والملاحظات المتكررة على بعض سائقي الحافلات المدرسية في عدم التزامهم من جهة، أو حالة التعطل المستمرة للحافلة في أثناء نقل الطلبة، أو عدم تقيد سائق الحافلة بالشروط واللوائح المحددة في هذا الشأن، أو كذلك ما يصدر منه من سرعات وعدم اهتمام بمراقبة نزول الطلبة أو صعودهم وغيرها من الممارسات التي قد يؤدي تكرارها إلى مزيد من الاستهتار وتعاظم الأمر وحدوث مثل هذه الحوادث المميتة، تلقي بأعبائها اليوم على وزارة التربية والتعليم في مراجعة هذا الأمر.وفي المقابل نعتقد بأن ملف الحافلات المدرسية أصبح يُمثِّل أحَدَ عوامل الهدر التعليمي والفاقد في الممارسة التعليمية، نظرا لأن أكثر من نصف المشكلات اليومية التي تتعامل معها المدارس وكادرها الإداري والتدريسي، وما تتطلبه من اجتماعات ونقاشات ومتابعات لأولياء الأمور للمدارس إنما ينصب الجزء الأكبر منها في هذا الجانب، حتى أصبح يأخذ النصيب الأكبر من وقت المعلم وولي الأمر والطالب ومدير المدرسة ومؤسسات التعليم عامة، كما أسهم في وجود الكثير من الممارسات والظواهر السلبية التي باتت تواجهها، خصوصا في ظل التأثير الاجتماعي في إخفاء بعض الممارسات التي يقوم بها سائقو الحافلات المدرسية، واتجهت المسألة بدلا من تطبيق العقوبة أو إقرار العمل بالإجراءات مساحة للتدخل الاجتماعي في محاولة التستر والتخفيف على سائق الحافلة مراعاة لظروفه وعدم وجود معيل لأسرته.ومع تأكيدنا على أهمية تغليظ الإجراءات وتفعيل المقتضيات التشريعية والقانونية، إلا أننا في المقابل نعتقد بأن هذا الموضوع أشبع بحثا ودراسة في أروقة وزارة التربية والتعليم، وشُكِّلت لجان عمل في هذا الشأن في السنوات الماضية، ومع ذلك ما زال يدور في حلقة مفرغة وسلسلة كلامية غير منتهية، ولذلك كان من الأهمية التفكير خارج الصندوق تلبية للمطالبات الأخرى بإعادة هيكلة نظام نقل الطلبة المدارس ومؤسسات التعليم العالي وعبر استقدام شركات متخصصة، وهو أمر اتجه إليه الكثير من دول العالم، ولدى دول المنطقة تجارب مناسبة في نقل الطلبة عبر شركات متخصصة وعقود عمل تعمل عليها بكل مهنية مع توفير التشريعات الرقابية وأنظمة المتابعة والرصد لأي تجاوزات تمارس من قبل هذه الشركات، وهو أمر قد يكون الحل الأنسب والأجدر بالبحث فيه، في سبيل الحفاظ على أرواح الأبرياء من الطلبة والحدِّ من هذه الحوادث المميتة التي باتت تدق ناقوس الخطر، ومواجهة عدم التزام المواطن صاحب العقد أو السائق بمسؤولياته الأخلاقية والقانونية والإنسانية والوطنية، وضرورة وضع المواطن في صورة الالتزام الوطني الذي يجب عليه، وأن يقف صاحب العقد بنفسه على هذا العمل بحيث يتجه هذا العقد من كونه تجارة رابحة محتكرة من البعض ويمارسها آخرون بدون قيد أو شرط إلى إلزامه بالشروط والواجبات بكل تفاصيلها، وهو إما أن يمارس مسؤولياته الموكلة إليه بإتقان ومهنية وحسب الشروط أو أن تمارس جهة الاختصاص دورها بفسخ العقد.أخيرا، نعتقد بأنه آن الأوان إلى إخراج هذا الموضوع من حقيبة وزارة التربية والتعليم، وأن يتحمل مجلس الوزراء الموقر مسؤولية التعامل مع هذا الملف عبر الاتجاه إلى التخصيص، وفي الوقت نفسه فإن فراغ الضوابط العملية في هذا الصدد يؤكد الحاجة إلى إعادة ضبط هذا الموضوع بالقوانين والتشريعات النافذة التي تتيح للجهات المختصة تنفيذ القانون والحصول على هذا الحق عندما يتجاوز سائق الحافلة المدرسية مسؤولياته ويقصر في أداء واجبه، ويبقى إيجاد تشريع وطني نافذ وسياسات ناضجة الطريق الذي يجب أن يسلك للحدِّ من حوادث الطلبة وحتى لا نفقد (حور) أخرى، فهل سيكون حادث حور السدية الطفلة البريئة، محطَّة تحوُّل والتقاط الأنفاس والتفكير خارج الصندوق بإعادة هيكلة هذا الملف وتصحيح مساراته، وإيجاد إجراءات مغلظة وعقوبات مشددة على من يثبت استهتاره بأرواح الأبناء وفلذات الأكباد؟ د.رجب بن علي العويسي[email protected]