يبدو أن مؤشر الحوادث المرورية المميتة بسلطنة عُمان بدأ يتخذ مسارا آخر بعد حالة من الاستقرار المصحوب بالتراجع والانخفاض التي عاشها على مدى الخمس سنوات الماضية. فما يظهر في الأشهر القليلة الفائتة من حوادث مرورية مفجعة نتج عنها إزهاق لأرواح الأبرياء من الرجال والنساء ممن هم في سن الزهور من الشباب والصغار، بات بطرح على الجهات المعنية بسلطنة عُمان، الكثير من التساؤلات والنقاشات المعمقة حول الأبعاد المرتبطة بهذه الحوادث والأسباب التي تقف خلفها وما إذا كانت نهج التوعية المرورية بحاجة إلى أن تبدأ فصلا جديدا آخر بعد فترة من السكون والهدوء المصحوب بالترقب والتقييم والانتظار، وما إذا كانت المسألة بحاجة إلى تدخل فوري يعيد الأمر إلى نصابه، ومع هذا التصور الذي بدأ يفرض نفسه على الواقع ويعيد ترتيب الأوضاع المرورية من جديد، هل فعلا نشهد زيادة في أعداد الحوادث المرورية بالسلطنة بعد جائحة كورونا، خصوصا أن الأمر بات يثير الكثير من الاستغراب والقلق في عدم ارتباطه بموسم معيَّن أو فترة محددة، بل ظلت فواجع الحوادث المرورية تقض مضاجع الأُسر وتضع المعنيين في الشأن المروري أمام حالة من الاستنفار وإعادة ترتيب الأولويات والجاهزية بتغيير قادم في سيناريوهات العمل وإضافات جديدة قد تظهر للأفق إذا ما استمر مسلسل الحوادث بهذا الحجم من الخطورة، وبالتالي ما يعنيه ذلك من توقعات باتخاذ سلسلة من الإجراءات الضبطية والتنفيذية والتوعوية والتثقيفية عبر إعادة إنتاج الخطاب المروري ومفهوم السلامة على الطريق في ثقافة المواطن والمقيم من جديد.ومع التأكيد على أن سلطنة عُمان انتهجت خطوات رائدة وجادَّة في السنوات الماضية في الحدِّ من الحوادث المرورية استجابة للدعوة الأبوية التي أطلقها سلطان عُمان الراحل ـ طيَّب الله ثراه ـ في الحدِّ من الحوادث المرورية، وما اتخذته شرطة عُمان السلطانية مع الجهات المعنية بالدولة والشركاء الفاعلين والمواطنين والمقيمين من مبادرات جادَّة توِّجت باستراتيجية السلامة على الطريق (2016ـ 2020) والتي ارتبط تنفيذها بجملة من المبادرات والإجراءات والأطر التي عملت مختلف المنظومات الوطنية على تشكيل صورتها وتنفيذ إجراءاتها، ما نتج عنها من مكاسب كبيرة على الأرض، وأفصحت خلالها مؤشرات السلامة على الطريق عن مزيد من التراجع في الحوادث المرورية، والانخفاض المستمر في أعداد الوفيات والإصابات الناتجة عنها، والذي نتج عنه انخفاض في معدل المخالفات المرورية والسلوكيات العامة لمستخدمي الطريق، حيث أشارت بيانات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2021 إلى أن نسبة الانخفاض في عدد الحوادث المرورية في سلطنة عُمان خلال عام 2020 بلغت (36.7%) مسجلة بذلك (1341) حادثا مروريا مقارنة بـ(2120) حادثا في عام 2019، كما بلغ عدد الإصابات الناجمة عن الحوادث المرورية خلال عام 2020، (1365) حادثا مروريا منخفضة بنحو 44% عن العام السابق.على أن ما يفصح عنه واقع التعامل مع الطريق من حوادث مرورية مشينة شهدتها شوارع السلطنة الوطنية والإقليمية والثانوية، وما نتج عنها من وفيات، وما يظهر من عدم ارتباط هذه الظاهرة بخريف ظفار السياحي، أمر يدعو إلى التفاؤلية بأن هذا الانخفاض لم يكن مرتبطا بجائحة كورونا (كوفيد19)؛ بل هو امتداد لمحطَّات متواصلة من العمل الوطني المروري المتقن والبنى الأساسية الصلبة والناعمة التي خرجت بها جملة الجهود والمبادرات والإجراءات التي اتخذتها السلطنة في سبيل الحدِّ من الحوادث المرورية، وما يؤكد على ذلك هو ما أشارت إليه إحصائيات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات لعام 2019 من أن عدد الحوادث المرورية بسلطنة عُمان قد شهد انخفاضا في السنوات الأربع الأخيرة، حيث بلغ حسب السنوات 2014 (6.717)، و2015 (6.270)، و2016 (4.721)، و2017 (3.845)، و2018 (2.802). كما أشارت إلى أن عدد الحوادث المميتة في عام 2014 (641) بنسبة 9.5%، وفي عام 2015 (545) بنسبة 8.7%، وفي 2016 (566) بنسبة 11.9%، في حين لم تشهد السنوات الأخرى أي تسجيل لحوادث مميتة، إذ تُمثِّل هذه المؤشرات محطَّة مهمَّة يجب الوقوف عليها، بل يؤسس للحاجة إلى إعادة سيناريو العمل الوطني الموجِّه للسلامة على الطريق عامة والحوادث المرورية بشكل خاص، نظرا لما أثبتته هذه الإجراءات والبنى الأساسية الناعمة ممثلة في التشريعات والقوانين وأنظمة المرور والإجراءات الأخرى المستجدة التي تستهدف إيجاد روح المواطنة المرورية في فقه قائد المركبة، وحملات التوعية والتثقيف التي عملت شرطة عُمان السلطانية ممثلة في الإدارة العامة للمرور على تأطيرها.هذا الأمر يأخذ في الحسبان الأثر الناتج عن تفعيل أجهزة الضبط المروري الثابتة والمتنقلة في الطرق الوطنية والإقليمية، وجملة الأنشطة والبرامج الإعلامية والتأهيلية التي تستهدف تعزيز وعي مستخدم الطريق، وتوفير منصَّات عمل جدية تساعد على تبنِّي بدائل وحلول تعزز من مساحات الأمان المروري، يضاف إلى ذلك ما حققته الرسالة الشرطية من تقدم نوعي في أساليب التوعية المرورية، واتجاهها نحو تعميق البُعد الإنساني الناتج عن مسار التغيير الذاتي الذي ينطلق من فقه الفرد وقناعاته، وتأكيد الثقة في مستخدم الطريق وتقييم سلوكه ومراجعة أدواته، ليتجاوز الخطاب المروري المؤثر حالة الفردية إلى توجيه السلوك بشكل جمعي والتزام مجتمعي بالحاجة إليه، بالإضافة إلى تعظيم المكاسب الناتجة عن يوم السلامة المرورية وأسابيع المرور ومسابقة السلامة على الطريق ودور اللجنة الوطنية للسلامة على الطريق ومعاهد السلامة المرورية في إنتاج الحلول واقتراح البدائل، وتوفير الفرص، وتوليد وابتكار الأدوات التي أسهمت بدورها في تطوير محتوى الرسالة المرورية بما يتناسب وطبيعة المخاطبين الشباب، ويتوافق والنمو الفكري والمعرفي لديهم، فإن هذا التحوُّل الحاصل في البنى الناعمة جاء متناغما مع حجم التطور الذي شهدته بنية الطرق وشبكات المواصلات في سلطنة عُمان في تأكيدها مسار الانسيابية والأمان، وما التزمته من مواصفات عالمية راعت الخصوصية التضاريسية للسلطنة وظروف المناخ والطقس، كما استطاعت أن تقترب من أبجديات المفردة الوطنية العُمانية وتفكير الشباب انطلاقا من إنسانية المرور.من هنا يأتي التأكيد اليوم على أن استدامة الانخفاض في عدد الحوادث المرورية المميتة يؤسس لمرحلة جديدة في ظل بوادر الارتفاع التي شهدتها الأشهر القليلة الماضية في تجديد عقد الاهتمام بهذا الموضوع، وترسيخ معاييره ومساهمة السلوك الجمعي الوطني في إعادة إنتاجه في ظل المعطيات المتجددة، فإن التحوُّل نحو صناعة المواطنة المرورية بما يستدعيه من الدخول بعمق في السلوك الإنساني وفهم المتغيرات والظروف التي يعمل فيها أو يعيشها، وتحقيق إنتاجية التشريع من خلال قدرة القوانين والأنظمة ولوائح العمل والتعليميات التي يعمل من خلالها شرطي المرور على استيعاب هذا الواقع، واحتواء الممارسة المرورية المفتعلة، وامتلاك شرطي المرور للمهارات والقدرات والاستعدادات المعززة بفلسفة الحدس وحس الفراسة وتقدير الظروف وحكمة التوجيه وأسلوب التأثير والاحتواء، محطَّات مهمة لبناء المواطنة المرورية التي تقرأ السلوك المروري في شخصية المواطن والمقيم الواعي، في ظل تمازج بين المعرفة النظرية والثقافة المهنية المرورية والحس المروري، والفهم المتحقق لمعطيات الحالة المرورية وترسيخها في معتقدات وقناعات واتجاهات واهتمامات مستخدم الطريق، بحيث تعمل على توجيه سلوكه المروري بشكل أكثر نضجا ومصداقية مصحوبا بإرادة ذاتية ورغبة نابعة من استشعاره بمسؤولياته، وإدراكه لحجم المآسي الناتجة من حوادث المرور.عليه، يطرح مقالنا الحاجة إلى إعادة إنتاج الموجهات المرورية التي اعتمدتها سلطنة عُمان في بناء المعالة المرورية وتقوية أركانها، وتعظيم الفرص النوعية لإيجاد سلوك مروري متزن، بمعنى أن فترة الاختبار الماضية ومساحة السكون والتأمل والانتظار التي اتخذتها شرطة عُمان السلطانية في خفض مستوى البرامج التوعوية والتثقيفية حول السلامة على الطريق والتي أثمرت عن نتائج التراجع، بحاجة إلى إعادة إنتاجها بما يتوافق مع مؤشرات الارتفاع المتوقعة، إذ إن فترة الاستراحة كافية لأجل تعزيز الحس المروري وتجريب نتائج تجسيد الإجراءات والمفاهيم والمفردات المرورية في سلوك المواطن، خصوصا في ظل متغيرات جديدة وموجهات تقنية ومنصَّات اجتماعية باتت تثير العديد من الوقفات حول إعادة إنعاش هذا الملف أو بدأت تختزل هذه المكاسب من خلال ممارسات غير مسؤولة على الطريق، ومع القناعة بأن لدى شرطة عُمان السلطانية اليوم ملفات اجتماعية أخرى باتت تتصدر نطاق منظومة الأمن الاجتماعي كالمخدرات والاحتيال الإلكتروني والتحديات الفكرية وأمن المعلومات وغيرها، إلا أن البُعد المروري باعتباره يمسُّ أمن الإنسان واستقراره سيظل بحاجة إلى هذه المساحة من التنشيط لمكوِّناته من جديد، نظرا للمخاطر المترتبة على اتساع هذه الحوادث وانتشارها، وتقييم البدائل والسيناريوهات السابقة وإيجاد سيناريوهات عمل جديدة في إشراك الشباب واستنطاق القِيَم واستنهاض المبادئ واستحضار الأخلاق وتأصيل إنسانية المرور وتوظيف التقنية وضبطها بالتشريعات لتُسهم بدورها في حركة التغيير والإصلاح القادمة في السلوك المروري.أخيرا، يبقى التحدي الأكبر هو كيف نحافظ على المكاسب الوطنية المتحققة من تراجع الحوادث المرورية وانخفاضها، بحيث تتجه الجهود إلى تعظيم القيمة المضافة لهذا التراجع واستدامتها بما يحافظ على كيان الإنسان وموقعه في أبجديات الوطن وأولويات مؤسساته، وتبقى دعوتنا من هذا المقال إلى استمرار العمل نحو إعادة إنتاج المسار المروري ونقله من حالة السكون إلى التحديث ورفعه في المنصَّات الإعلامية، الطريق الأنسب للحفاظ على المكاسب الوطنية المتحققة من التراجع والانخفاض الحاصل في الحوادث المرورية، وإبقاء الهاجس المروري مصاحبا لسلوك الإنسان مستخدم الطريق، ضامنا لاحتواء تصرفاته، وإعادة تصحيح ممارساته وتعريفه بما غفل عنه، واستدراك ما فاته من موجهات باتت الحاجة إلى إتقانها وفهمها ومعرفتها طريق القوة في تجاوز حالة الاندفاع والتهور والسرعات الزائدة والإبقاء على مساحة الهدوء والحكمة والأمان والسلامة حاضرة. د.رجب بن علي العويسي[email protected]