إن ما شهدناه في السنوات القليلة الماضية ما هو إلا رسالة تحذيرية، تدفعنا نحو تغير شكل التجارة على المستوى العالمي، بجانب سيدفع الدول إلى بذل مزيد من الجهود نحو تعظيم الإنتاج المحلي، والساعي للوصول إلى الاكتفاء الذاتي..
متى سيحدث ثبات في أسعار السلع؟ هذا هو السؤال الأبرز الذي يطرحه التجار والمصنِّعون حول العالم، فاستمرار التقلب الحادِّ في الأسعار يعمق عدم اليقين في سلاسة الحركة التجارية حول العالم، فالمنتج أو التاجر بات لا يعرف ـ برغم ما يملكه من خبرات واسعة ـ خط سير حركة الأسعار العالمية والمحلية، فأحيانا يشتري منتجاته أو منتجاته الأولية بسعر مرتفع، يعجز عن توفيره مع حالة الانخفاض الحادة المتكررة، والتاجر أيضا يمرُّ بنفس الأزمة، لذا نجد تمسك هؤلاء بالأسعار المرتفعة على الرغم من انخفاض أسعارها على المستوى العالمي. صحيح أن البعض يستغل الأزمات ويسعى إلى تعظيم أرباحه لأطول فترة، لكن سيبقى للتقلبات أثر عميق على الحركة التجارية العالمية، فاستمرار ظاهرة التقلب التي ظهرت نتيجة تداعيات كورونا، وتأثر سلسلة الإمداد والتوريد عالميا منها، بالإضافة إلى الانتكاسة التي حصلت بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، كل هذا لن يزيد فقط من التضخم، لكن آثاره وتداعيات ستؤثر سلبا على كافة الأصعدة الاقتصادية.
بل سيتخطى التأثير إلى ظهور أزمات سياسية محلية داخل البلدان، أو عالمية نتيجة القلق من تضخم التداعيات، فتقلب أسعار الطاقة ما بين انخفاض حادٍّ وصعود مفاجئ أشد حدَّة، ومع دخول فصل الشتاء في الجانب الغربي الذي يتسم طقسه بالبرودة الشديدة، والذي يحتاج مصادر كبيرة من الطاقة تزيد في فصل الشتاء سعيا للتدفئة، نجد أن الأسعار تتجه لارتفاع مجنون على المستهلك، فقد بدأت أسعار الكهرباء في أوروبا تتجه نحو ارتفاع كبير، متأثرة بأزمة ارتفاع أسعار الطاقة، حيث ارتفعت أسعار الكهرباء في ألمانيا وفرنسا إلى مستويات قياسية جديدة مع ارتفاع سعر العقود الآجلة للغاز الطبيعي الهولندي، وهي العقود القياسية للسوق الأوروبية بنسبة 9ر8 بالمائة، والأمر سيكون أشد في بريطانيا، حيث يتوقع الخبراء ارتفاع سقف أسعار الطاقة في بريطانيا بنسبة 80 بالمائة ابتداءً من شهر أكتوبر المقبل، ممَّا سيؤدي إلى زيادة التضخُّم.
وبرغم التعهدات الروسية باستمرار إمدادات السلع من روسيا وأوكرانيا، والتي أثرت على كافة أسعار السلع الغذائية وغير الغذائية التي تعد روسيا وأوكرانيا أحد أكبر المصدرين لها، إلا أن الأمر لا يزال شديد التعقيد، فمن ناحية تأثر حجم التصدير بالأزمة، ومن ناحية أخرى وضع بعض الدول المصدرة الأخرى ضوابط مقيدة للتصدير للحفاظ على أسعار السلع داخليا، وعلى رأس تلك الدول الهند، ويتوقع من أن تؤدي تلك الأسباب إلى مزيد من تقلب أسعار السلع عالميا، ما يكون له تأثير سلبي على حركة التجارة، برغم جهود العديد من الدول الساعية لإحداث التعافي الاقتصادي المنشود.
إن ما شهدناه في السنوات القليلة الماضية ما هو إلا رسالة تحذيرية، تدفعنا نحو تغير شكل التجارة على المستوى العالمي، بجانب سيدفع الدول إلى بذل مزيد من الجهود نحو تعظيم الإنتاج المحلي، والساعي للوصول إلى الاكتفاء الذاتي، بالإضافة إلى التوجُّه نحو البحث العلمي سعيًا لابتكار حلول تعالج ما يمر به الدول والعالم أجمع من أزمات، أدخلت مليارات البشر حول العالم نفق الفقر، لتخلق تهديدات تؤثر على استقرار وسلامة الدول على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. فالعالم أضحى بحاجة لحلول مبتكر لأزماته، حلول تخرج من رحم المعاناة، وتعمل على دفع الأوضاع نحو الاستقرار، الذي سيكون أحد العوامل المهمة في السيطرة على التضخم وحركة التجارة حول العالم، وإلى أن يحدث ذلك سنظل في ذات الدائرة المفرغة التي سيكون لها آثار كارثية لو استمرت فترة تفوق قدرة الدول والشعوب على تحملها.

إبراهيم بدوي
[email protected]