في نزوى كل ملمح وموقف ومشهد له دلالاته وقراءاته المختلفة واللافتة للنظر، والمحفزة على القراءة والتأمل، منجز حضاري هنا، معلم سياحي هناك، رمز ديني مبجل يطل من موقع آخر، عظمة الإنسان العُماني وروحه التواقة إلى التميز والتفرد.. مقاطع الفيديو والصور الخلابة والمدهشة، التي يلتقطها الهواة وعشاق السياحة الداخلية والباحثون عن المتعة والاكتشاف، والذين يمتلكون روح المغامرة، ومطاردو التكوُّنات المحلية والعواصف الرعدية... لقرى وأودية وأفلاج ومدن عُمان وريفها المتنوع ومعالمها الجميلة ومواقعها الساحرة وحاراتها القديمة وصروحها الحضارية، وفي لحظات سقوط الأمطار وجريان الأودية والشعاب وانهمار الشلالات وفيضانها... وما تنثره من دفقات الفرح والبهجة على الوجوه، وما تعبِّر عنه من عفوية الملامح وبساطة الحياة وإشراقتها للإنسان وهو يدير أعماله ويمتهن حرفته، ويتعالى على صغائر الأمور، ويتجاوز الشكليات والتفاهات، ويتجاوب مع مفردات الفرح والجمال، وهو بقرب ساقية الفلج أو في أعلى نخلته يحصد رطبها الجني أو ينادي على سلعة ما في السوق أو يشرب فنجان قهوة بعد فردات من التمر العُماني أو يداعب صديقه وقرينه أو أطفاله على أنغام موسيقى دفقات المطر، وغيمات السماء وهي تسبح في فضاءات سماء الوطن أو تلوذ بقمم الجبال استجابة لنداءات الطبيعة... وينشرونها على وسائل التواصل بأنواعها المختلفة، فتبهر ملايين المتابعين في أنحاء العالم مندهشين مفتونين بجمال عُمان وتنوُّعها وأناقة شعبها ورُقيه... وأخبار افتتاح النزل والمقاهي الحديثة في الحارات القديمة وتحويل بعضها إلى متاحف لعرض المقتنيات التاريخية، والأفكار الملهمة التي يحوِّلها الشباب إلى مشاريع مطبقة وأعمال منفذة... جميعها تحفز وتشجع وتدعو الإنسان إلى زيارة المواقع والقرى والولايات العُمانية، خصوصا تلك التي تترك أكبر الأثر في النفس وتثير المشاعر وتقدم الطبيعة وبساطة الإنسان وجمال المكان في أزهى وأنقى وأبهى حللها، فسوق نزوى وساحته الواسعة والقلعة الشامخة والحارات القديمة فيها، وأفلاجها الداؤودية وأوديتها وشعابها التي تجري بغزارة بعد الأمطار المتواصلة خصوصا في هذا الصيف الخصب، ومقاطع الفيديو والصور التي تلتقط من مواقع جذابة فيها... هي من أكثر وأعمق ما أثَّر في نفسي وشجعني على التطواف بين معالم وصروح وحارات نزوى مرارا، ونقل تجارب نجاحات وإنجازات الإنسان هناك والتي تحوَّلت إلى نموذج ملهم، وقد وثَّقت مشاهداتي عنها في مقالات نشرتها “الوطن”. فيما وسعت تجربتي في هذه الزيارة الأخيرة بالإقامة في نزل قديم “بيت الحارة” بحارة “العقر”، بالقرب من السوق والقلعة والجامع والحارات والأزقة القديمة والمعالم السياحية التاريخية والأثرية، بغية تمضية أوقات بهيجة بين البساتين والخمائل وارتشاف فناجين القهوة في المقاهي المطلة على واحات النخيل والفلج... ومشاهدة والتقاط أفضل الصور والمشاهد التي تبرع فيها نزوى وإنسانها النشط المبدع. الموجات الشرقية أو المد الرطوبي الاستثنائي من بحر العرب، وتأثيراتها الممطرة التي تواصلت طوال شهر “يوليو” وأدَّت إلى خفض درجات الحرارة على غير العادة في هذا الوقت من السنة، ظهرت انعكاساتها الطيبة على الأودية التي تشبعت بالمياه وواصلت جريانها النشط لتضفي إلى الطبيعة والسياحة بُعدا جماليا أخَّاذا، وعلى واحات النخيل والقرى التي ازدانت وتجملت بالمزيد من الاخضرار والبهاء، والأفلاج التي تدفقت المياه من سواقيها لغزارة المياه، ما يشي بمواسم زراعية وفيرة... وهو ما رفع من دوافع ومحفزات وجماليات هذه الرحلة وزادها شغفا وبهجة وسحرا، فالنفس والعقل والمشاعر تتنفس البهجة والجمال والراحة في أحضان الطبيعة. تناولنا فطورنا المنزلي على ضفاف وادي سمائل المتدفق نهره الصافي بالمياه، تحفنا بساتين النخيل والحمضيات وأشجار الوادي الوارفة من كل صوب، في لحظات بهيجة لا تنساها الذاكرة مهما شاخ بالإنسان العمر. في نزوى كل ملمح وموقف ومشهد له دلالاته وقراءاته المختلفة واللافتة للنظر، والمحفزة على القراءة والتأمل، منجز حضاري هنا، معلم سياحي هناك، رمز ديني مبجل يطل من موقع آخر، عظمة الإنسان العُماني وروحه التواقة إلى التميز والتفرد، أفكار الشباب الملهمة والمبتكرة التي تؤكد وتبرهن على أن العُماني “مال شغل”، بل وعاشق للعمل والعطاء غير المحدود، قادر على قيادة عجلة النمو والتطور، والعمل بشغف من أجل تقديم مشاريع وأفكار رائدة ومجيدة، وهذا ما يراه ويلمسه ويجده ويشهده الزائر لنزوى فيقف إجلالا وإكبارا لأولئك الشباب الرائعين وهم يديرون ويشرفون على عشرات النزل والمقاهي والأعمال والمشاريع السياحية ويقدمون أعمالا ولمسات فنية مدهشة وأخَّاذة ويحدثون تحوُّلات واسعة وفوارق لافتة يلحظها السائح والزائر ما بين فترة قصيرة وأخرى عندما يأتي إلى نزوى فينبهر من البون الشاسع الذي يحدثه العُمانيون هنا...حسن التوبي، المجد المحروقي، خلفان بن سالم أولاد نصير، محمد الطائي، طارق النعماني، والعشرات، بل المئات تعرفت عليهم في الكثير من مواقع العمل، يشرفون ويديرون أعمالهم ويتابعون بدقة سير الأداء وينجزون متطلبات زبائنهم، في الأكشاك، وبسط البيع والمحال التجارية والعربات السياحية ومكاتب السياحة ـ التي تنتشر تدريجيا تجاوبا مع النمو المسجل ـ والمقاولات والعقار وغير ذلك كثير، وجوه عُمانية شابة وصغار في العمر، وكبار السِّن وكهول يعملون في كل شيء وفي كل موقع ومشروع ومنشأة، يبرعون ويتقنون ويقدمون أنفسهم مثالا ونموذجا لإرادة وصلابة وروح العُماني الإيجابية والفعالة. ما بين الجامع والقلعة والسوق مرورا بحارة “العقر” وفلجها، وحتى حائط العالم الكبير “أبي المؤثر” يمرُّ السائح بعشرات الأزقة التي تتشابك وتتداخل وتتفرق فتجتمع، ومثلها من المعالم السياحية والآثار التاريخية والبيوت التي فلتت من عوائد الزمن فعرفتنا بحياة الآباء وأسلوب معيشتهم وفنهم العماري، والبساتين التي تتمايل زهوًا وحُسنا بنخيلها الباسقات وأشجارها الوارفة، والنزل والمقاهي الحديثة التي مزجت في إبداع يدعو إلى الدهشة بين الماضي والحداثة. “مسجد الشواذنة”، الذي بني في العام السابع الهجري، ودرس فيه وتخرج من حلقاته مئات العلماء الأجلاء عبر التاريخ، “سبلة النيري”، “سور العقر”، ضريح “الشيخ الأصم أبي عبدالله عثمان بن عبدالله العزري”، “مدرسة الجليلين” التاريخية التي تمتلك أوقافا وآثارا وذكريات قديمة، مسجد “الفرض”، الذي بناه العلامة أحمد بن محمد بن محيص... نزل “بيت الحارة”، “إن أنتيك”، “البيت العُماني للضيافة”، “نزل نزوى التراثية”، الذي يضم أكثر من ستة مبانٍ أخرى تديرها الشركة الأهلية “بوارق نزوى الدولية للاستثمار”، “نز كافيه”، “آنه كافيه”، مطعم “العقر الشعبي” ما هي إلا نماذج ليد العطاء التي ترسم لنزوى مستقبلا سياحيا واقتصاديا مزدهرا، وتغص الطرق الضيقة بحركة أقدام السياح والسيارات والدراجات الهوائية والنارية والعربات السياحية والخيول.. وفي كل منزل قديم تنشط حركة التعمير والصيانة والتجديد بغية تحويلها إلى المزيد من النزل والمقاهي والمتاحف في مظهر وعمارة تحفظ للقديم هيأته وشكله ونمطه، الحياة تنبض في كل عرق من جسد الحارات القديمة، بعد موات استمر لعقود. إنها نزوى تستعيد مكانتها وجمالها وتاريخها ونشاطها وحيويتها في ثوب حديث، وفكر متجدد واعٍ بتحوُّلات العصر ومتطلباته، مستجيبا للحاضر، مسلحا بالعِلم والمعرفة، متهيأ لتطورات المستقبل. إنها نزوى، يستحق شبابها الدعم غير المحدود من قبل المؤسسات الحكومية المتخصصة، وزيارات متواصلة ولقاءات مفتوحة مع المسؤولين فيها، وتفهما وتجاوبا مع المقترحات والمبادرات المطروحة... فتجربة نزوى رائدة وتستحق أن تدرس وتتسع. في ولاية الجبل الأخضر الذي أقمنا ليلة في أحد فنادقه الجميلة، كانت الأمطار تهطل بغزارة من سحابة عصرية، تشكلت بفضل العوامل الجوية المُهيِّئة للتكوُّنات المحلية التي تتميز بها جبال الحجر صيفا فتضفي بُعدا جماليا أخَّاذا لقرى وأودية وصحاري عُمان، وكانت ساعتها مئات الأجهزة النقالة تلتقط صورا لا حصر لها للشلالات المنحدرة من القمم ومشاهد السحب السابحة في الفضاء والجداول المائية التي تتجمع مشكلة واديا هادرا يسحب معه كل ما يصادفه في مساره مغذيا عددا من الأفلاج في نزوى وإزكي وبركة الموز... فيما لا تتعدى درجات الحرارة ساعتها الـ١٨ درجة، في أجواء ممتعة بهيجة تسعد القلب وتشرح النفس، فعُمان تحتشد بلوحات جمالية غاية في الروعة والأناقة، والسياحة الداخلية لها متعتها وتميزها ورونقها التي لا تضاهى. ثلة من الشباب في ولاية الجبل الأخضر، استثمروا الموسم السياحي النشط والموقع الاستراتيجي والمكانة التي يتميز بها في خريطة السياحة العُمانية، بفتح عدد من الأنشطة التجارية والسياحية والمقاهي وأكشاك إعداد الطعام بأنواعه والمشروبات، وعرض وتسويق المنتجات الزراعية التي تتميز بها قرى الجبل مثل الرمان والتين والخوخ... وتأجير منازلهم كنزل وأماكن إقامة للسياح، فالسياحة من مميزاتها تحريك وتنشيط الكثير من الأوردة والمجالات الاقتصادية وابتكار نشاطات جديدة غير مألوفة، وتوفير فرص عمل دائمة ومؤقتة للباحثين والمحتاجين إليه.. في طريق عودتنا إلى مسقط، كانت التكوُّنات الصيفية المحلية نشطة جدا، والسحب تتجمع وتتسع وتتراكم مُشكِّلة أنواعها وألوانها طبقات متعددة، وما هي إلا دقائق حتى قرقع من بين طبقاتها صوت الرعد وومض البرق وسقطت الأمطار بغزارة وتدفقت الشلالات والشعاب وتجمعت الأودية في كل من بركة الموز ـ إزكي ـ وادي بني رواحة ـ سمائل ـ الجيلة... فما أجمل السياحة وأبهجها بصحبة المطر مبعث الحياة. سعود بن علي الحارثي[email protected]