«.. فالمستشفيات في ذلك العصر لم تكن تجارية، بل هي تقدم عملا إنسانيا اجتماعيا متكاملا، وهنا نتساءل: أين مستشفى المنصوري الكبير الآن؟ فالأصل في الوقف الخيري الاستدامة..»

استوقفني ما ذكره الكاتب مصطفى السباعي في كتابه من روائع حضارتنا عن وقف السلطان منصور سيف الدين قلاوون الألفي الصالحي، أحد أشهر سلاطين المماليك البحرية ورأس أسرة حكمت مصر والمشرق العربي ما يزيد على قرن من الزمان، والسلطان منصور من رجال الملك الصالح أيوب، فكان من كبار الأمراء أصحاب النفوذ في دولة بيبرس، وفد بويع له بالحكم على مصر، وخلال فترة حكمه سار على نهج أسلافه بالاعتماد على الوقف الخيري في تعزيز البنية التحتية لمصر، وإنشاء مشاريع تنموية مستدامة تخدم المجتمع. ومن هذه الأوقاف الخيرية إنشاء المستشفى المنصوري الكبير أو بيمارستان قلاوون الخيري.
حيث حوَّل السلطان منصور دار أحد الأمراء إلى مستشفى عام 683هـ/1284م، كان مستشفى له هُوية مميزة لم تصل إلى مستواها مستشفيات العصر الحديث، فهذا المستشفى لا يقتصر دوره على علاج المريض فقط وإصلاح ما عطب من جسده، بل يراعي ظروفه الاجتماعية والنفسية ويقدم الخدمة الاجتماعية له. فكان يقدم العلاج المجاني للمرضى وإيواءهم وتقديم الدواء والغذاء المناسب لهم حتى شفائهم، وكان الدخول والانتفاع به مباحا لجميع الناس، من ذكر وأنثى وغني وفقير، كما عيَّن له الأطباء من جميع التخصصات، ووظف له الفراشين ورجال الخدمات للإشراف على المرضى وإصلاح أماكنهم وتنظيفها وغسل ثيابهم وخدمتهم في الحمام، بل ونصَّ في وقفيته على أن يقدم طعام كل مريض في زبدية خاصة به من غير أن يستعملها مريض آخر، ووجوب تغطيتها وإيصالها إلى المريض بهذا الشكل، ولم تكن الاستفادة منه قاصرة على المرضى المقيمين، بل رتب لمن يطلب الخدمة والعلاج وهو في منزله ما يحتاج من الأشربة والأغذية والأدوية والعلاج اللازم.
وقد كان يتبع هذا المستشفى الخيري مدرسة لتعليم الطب، فقد مارس مستشفى السلطان قلاوون بالقاهرة في القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي دوره الكبير في تدريس الطب كأفضل ما يكون، بعد أن استقبل الطلبة الراغبين في تعلم مهنة الطب بواسطة الأساتذة الكبار في المستشفى. وهكذا اهتم مستشفى السلطان قلاوون بتوفير الرعاية الصحية القصوى للمرضى، وذلك عبر تجويد تعليم مهنة الطب للأطباء الجدد، فبعد امتحانهم عدَّة مرَّات، كان يجرى احتفال بتخرجهم وفق تخصصاتهم المختلفة، كالطبائعيين، والجراحين، والكحالين، وفي هذا الاحتفال كانت تجرى كتابة تعليمات ونصائح لهم في حياتهم المستقبلية في مهنة الطب. وعلى سبيل المثال، كان يجري تذكير أطباء الباطنية دائمًا بالقواعد الطبية التي تقضي بعدم صرف الدواء إلا في مكانه الصحيح، مع تجنب صرفه لمن لا يحتاجه، وعلى حد قول المصادر التاريخية المملوكية: “ليتجنب الدواء ما أمكنه المعالجة بالغذاء”.
وقد حرص قلاوون على استدامة هذا الوقف فأنشأ أوقافا أخرى تستثمر لتدر على هذا الوقف (مستشفى المنصور الكبير) لدعم تكلفته التشغيلية، وكانت تبلغ قيمة المبالغ المحصلة من هذه الأوقاف لصالح وقف المستشفى، حيث أوقف السلطان المنصور قلاوون عليه وألحق به عددًا من الممتلكات والعقارات والحوانيت والحمامات والفنادق، لتدر الأرباح على المستشفى.
ولم يقتصر اهتمام بالمستشفى بعلاج المريض جسديا، بل كان يهتم بعلاجه نفسيا، فهو يعين البعض ليتجول بين المرضى فيرفع معنوياتهم ويدعمهم نفسيا، سواء بالتخفيف عنهم أو بالإيحاء له بالشفاء. فقد اشتهر عن أنه يعين رجالا يختفون خلف الستار ويتحدثون ليسمعهم المريض أن هذا المريض يُرجى شفاؤه فاحمرار عينه حق خف، ويبدو منتعشا وغيرها من الأعراض، كما اهتم بالدعم الاجتماعي للمريض فلا يخرج منه كل من يبرأ من مرض حتى يعطى كسوة للباسه ودراهم لنفقاته حتى لا يضطر للالتجاء إلى العمل الشاق فور خروجه. فيتم فترة النقاهة بسلام، كما يتم توفير لمن مات جهاز وكفن ودفن.
فالمستشفيات في ذلك العصر لم تكن تجارية، بل هي تقدم عملا إنسانيا اجتماعيا متكاملا، وهنا نتساءل: أين مستشفى المنصوري الكبير الآن؟ فالأصل في الوقف الخيري الاستدامة ويجب الحفاظ عليه من قبل القائمين على الوقف الخيري ليضمن استمراريته، فكم نتمنى إحياء مثل هذه الأوقاف الخيرية المتميزة ولا يكتفى بتحويلها إلى معالم أثرية، بل تدعم من قبل الأوقاف لتعود لتقديم رسالتها الإنسانية التي أنشئت لأجلها، وإننا لنرى تجارب من الأوقاف ذات خدمات النفع العام في أوروبا ما تستمر خدماتها مئات السنين دون انقطاع حتى عصرنا الحاضر، فتجد الجامعات والمستشفيات الوقفية العريقة مستمرة منذ مئات السنين حتى عصرنا فيحافظ عليها وتدعم لتنمو لتقدم المزيد من الخدمات، فالوقف الخيري أمانة في عنق الأجيال يجب الحفاظ عليها وتفعيلها... ودمتم أبناء قومي سالمين.

نجوى عبداللطيف جناحي
كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
Najwa.janahi@