تطرح حوادث الغرق الأخيرة الناتجة عن الحالة الجوية الماطرة التي مرَّت بها سلطنة عُمان في أيام إجازة عيد الأضحى المبارك والربع الثاني من شهر يوليو من عام 2022 وراح ضحيتها أكثر من 16 شخصا جرفتهم مياه الأمطار والأودية، تطرح العديد من التساؤلات حول الأسباب التي تقف خلف هذا الارتفاع واللوازم والوسائل والإجراءات التي يجب أن تتجه إليها الأنظار في التعامل مع مثل هذه الحالات، خصوصا مع استمرار جهود التوعية والتثقيف والتعليمات والرصد المستمر للحالة من المركز الوطني للإنذار المبكر من المخاطر المتعددة والتحديثات التي تقدمها هيئة الأرصاد الجوية، بالإضافة إلى جهود شرطة عُمان السلطانية وهيئة الدفاع المدني والإسعاف بشأن تعريف المواطنين بتأثيرات هذه الحالة، والوقوف على مستجداتها والمخاطر المتوقعة منها والإجراءات الاحترازية والوقائية التي يجب العمل بها في تلك الفترة، كما يؤسس لمرحلة متقدمة من العمل الوطني المتكامل في مراجعة معايير الأمن والسلامة في المواقع السياحية من جهة وتبنِّي سياسات وتشريعات وتوجُّهات وطنية تضمن رفع مستوى الوعي المجتمعي من جهة وتوظيف الفرص الوطنية والموجهات والسيناريوهات التي اعتمدتها سلطنة عُمان والتي أصبحت بيت خبرة في المنطقة في التعامل مع الحالات المدارية والأنواء المناخية ورفع درجة الجاهزية المجتمعية في التعامل مع الحالات الجوية في إطار تنفيذ أدق لاستراتيجيات الرقابة والمتابعة وتنفيذ الجزاءات والعقوبات والملاحقة القانونية على المخالفين والمستهترين بهذه الظروف.
وقد أشارت بيانات هيئة الدفاع المدني والإسعاف إلى أن إجمالي عدد البلاغات التي تعاملت معها فرق الهيئة بجميع محافظات سلطنة عُمان منذ بدء الحالة الجوية بلغ أكثر من 386 حالة حتى تاريخ 12 يوليو 2022 في حوادث الإنقاذ المائي، وشكلت البلاغات التي تعاملت معها فرق الإسعاف (254) بلاغا، وبلغ إجمالي الأشخاص الذين تم إنقاذهم من مجاري الأودية والمنازل (40) شخصا، وما من شك بأن هذه المؤشرات لأعداد هذه البلاغات في هذه الفترة البسيطة من الزمن يمثل رقما صعبا، ويلقي بثقله على كل الجهود الوطنية الموجهة للمحافظة على إنسان هذا الوطن وكل القاطنين على أرض سلطنة عُمان، خصوصا مع ما شهدته حوادث الغرق من انخفاض في السنوات الماضية. فعلى الرغم من أن حوادث الغرق وغيرها من الحوادث التي تتعامل معها هيئة الدفاع المدني الإسعاف شهدت انخفاضا في السنوات الماضية حيث بلغ إجمالي عمليات الإنقاذ المائي جراء حوادث الغرق والتي تعاملت معها فرق الإنقاذ المائي على مستوى السلطنة خلال عام ٢٠١٧م (١٧٣) عملية إنقاذ، بانخفاض بلغ (95) حالة وبنسبة ٣٥٪ عن عام ٢٠١٦م الذي سجل (٢٦٨) عملية إنقاذ مائي على مدى عام كامل، وبلغ عدد حوادث الغرق في عام 2018 (225) حادث غرق، وقد شهدت حوادث الغرق ارتفاعا في عام 2019 حيث بلغ عدد الحالات التي تعاملت معها فرق الإنقاذ المائي والبحري بهيئة الدفاع المدني والإسعاف (369) حادث غرق، بزيادة وقدرها (144) حادثا، بما يجعل من عام 2022 أحد أكثر الأعوام التي يمكن أن تشهد زيادة مقلقة في أعداد حالات الغرق، الأمر الذي لم يحصل حتى في أسوأ الظروف والحالات المدارية والأعاصير التي تعرضت لها سلطنة عُمان.
وتشير تقارير هيئة الدفاع المدني والإسعاف إلى أن من أكثر الأماكن التي تزداد فيها حالات الغرق هي الأودية والشواطئ ومجاري الأدوية في أثناء هطول الأمطار إضافة إلى التجمعات المائية بعد هطول الأمطار والقنوات المائية والأفلاج والسدود والبرك المائية والآبار وخزانات المياه المكشوفة والمستنقعات المائية. وتشكل حالات الغرق في البحر والأودية العميقة والبرك المائية والعيون في محافظة ظفار والخط الساحلي الممتد من ظفار إلى جنوب الشرقية أحد أكثر الأماكن النشطة لتزايد حالة الغرق خصوصا في فصل الصيف، نظرا لارتفاع منسوب موج البحر ولما يشهده خريف ظفار السياحي من توافد الكثير من السياح المواطنين والمقيمين والزوار ممن لا يتقنون مهارات السباحة والغوص والتعامل مع الأمواج، فإن الوقوف على الأسباب وراء هذا الارتفاع يضع كل من المواطن والمقيم والمؤسسات المعنية اليوم أمام مراجعات مستمرة، وقراءة معمقة لكل الممارسات الفردية والمجتمعية التي باتت تشكل مبررا لوقوع الغرق، ذلك أن من بين الأسباب المشاعة التي يمكن الإشارة إليها في حوادث الغرق، تدني مستوى الوعي المجتمعي بضوابط وإجراءات الأمن والسلامة عامة، والتدابير الوقائية والاحترازات في التعامل مع هذه الأماكن التي تنشط فيها حالات الغرق، وكذلك السباحة في الأماكن غير المهيأة أو المعدة للسباحة والتي تشكل احتمالية المخاطرة فيها أكثر من تحقيق شغف المتعة ورغبة السباحة، مثل: البرك الزراعية والأحواض غير المجهزة، والسدود والتجمعات المائية، وفي أثناء جريان الأودية، إضافة إلى عدم المعرفة المهنية بثقافة السباحة، وأساليب الإنقاذ والمهارات التي يجب أن تتوافر في الشخص المنقذ فيصبح هو الآخر أحد ضحايا الغرق، وبالتالي يؤدي الاندفاع العشوائي نحو الإنقاذ إلى غرق أكثر من شخص في ذات الوقت، بالإضافة إلى التساهل الحاصل في مراقبة الأطفال أثناء الرحلات البحرية والشاطئية أو التنزه بالقرب من الأودية والبرك المائية والأحواض والمسطحات المائية الخطرة.
وتُلقي كمية الاستهتار غير الطبيعية وهوس التصوير والشهرة المستشري في الناس في أثناء الحالات الجوية المصحوبة بكثافة الأمطار ونشاط الرياح ونزول حبات البرد وحودث الصواعق وغيرها، رغم التحذيرات والتنبيهات والتعليمات الصادرة من جهات الاختصاص، على نتائج تقييم الحالة الجودية، لتشكل أحد أهم الأسباب إن لم تكن الأكثر حضورا في ارتفاع أعداد حوادث الغرق الأخيرة، وحالات السقوط أو فقدان الأشخاص أو الاحتجاز أو المجازفة والتهور وفرز العضلات بعبور الوادي وما تعبِّر عنه بعض الممارسات من حالة عدم الاكتراث، والاستهتار المتعمد، وقلة الوعي بالمخاطر أو تعمد المخاطرة واللامبالاة وفردانية التصرف وحب الظهور أحد أهم التراكمات السلبية التي صاحبت عن الحالة الجوية، فإن ما تتناقله منصَّات التواصل الاجتماعي من عشرات المقاطع الحية المثبتة بالصوت والصورة والحركة لهذه الممارسات غير المسؤولة، وحالة التعمد بعبور الأودية، سواء بالمركبات أو عبر ركوب الأودية من أشخاص أو مجموعات والتي كان لها أثرها السلبي في غرق أو انجراف هذه المركبات، يؤكد الحاجة إلى الوقوف على معطيات هذه الحالة، وتبنِّي سياسات وطنية أكثر معيارية وضبطية في التعامل مع هذا الأمر، وتقييم دقيق لهذه الأسباب والوقوف الفعلي عليها وما إذا كانت هذه السلوكيات التي تفصح عنها مشاهد القفز في الأودية في أثناء نزولها أو المرور بالمركبة في أثناء نزول الأودية يعبِّر عن ثقافة شبابية مكتسبة في حب المخاطرة والمغامرة، أم أنها ممارسات مجتمعية وظواهر سلبية بات يتلقاها المجتمع بنوع من الاهتمام والممارسة الجمعية، بما يؤكد الحاجة إلى الوقوف عليها، ووضع حد لها، وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي تمارس باسمها، أو تنفذ في إطارها هذه الممارسات، وعبر وضع القوانين والأنظمة واللوائح التي تجرم من يتعمدون إلقاء أنفسهم أو غيرهم في التهلكة، سواء من خلال عبور الأودية وتعمد إدخال المركبات في أثناء نزول الأدوية أو حتى الاقتراب من الأودية والبرك المائية والجلوس بالقرب منها في الفترة التي تشهد تقلبات الأحوال الجوية.
من هنا تأتي أهمية تكاتف الجهود الوطنية في التعامل مع حوادث الغرق، فبالإضافة إلى جهود الأمن والسلامة والإنقاذ التي تقوم بها الأجهزة الأمنية والعسكرية بمختلف تشكيلاتها ووحداتها، تأتي أهمية إعطاء الموضوع مساحة أكبر في التفكير المجتمعي، والاهتمام المؤسسي، والبرامج الإعلامية والتوعوية والأمنية والوقائية الوطنية، لبناء ثقافة السباحة وتعميق حضورها في المجتمع وتكوين البرامج والمراكز المتخصصة لتدريسها، والتعامل بمهنية مع حالات الغرق والإنقاذ، تبدأ بتعويد الأطفال وهم في سن التعليم المدرسي على عادات السباحة وثقافتها ومهاراتها وتعليمهم منهجياتها، وآلية إنقاذ الغريق، والأدوات التي يحتاجها من يرتاد الأماكن السياحية المائية البحرية والجبلية، بالشكل الذي يمنحه فقه عادة السباحة، ويضمن قدرته على التعامل مع مواقفها بكل مهنية، والعمل على تعزيز إيجاد مراكز متخصصة ذات كفاءة عالية في تدريب وتعليم فنون السباحة ومهاراتها، وتمكين انتشارها في مختلف الولايات والمحافظات، عبر تنفيذها برامج متخصصة تتخذ حزمة تطويرية ممتدة في توعية المجتمع المحلي والطلبة في المدارس وعبر مختلف الوسائل الإعلامية والمنشورات ومنصَّات التواصل الاجتماعي والواتس أب، من حيث آليات التعامل مع الغريق، والمستلزمات الضرورة التي يحتاجها السائح عند ارتياد هذه الأماكن، والأدوات الوقائية في التعامل مع حالات الغرق، بالإضافة إلى دورات تدريبية مستمرة حول الإسعافات الأولية في إنقاذ الغريق، والإجراءات الوقائية من الغرق في الأماكن العميقة، والتوعية المستمرة لمحبي الرحلات والمغامرات البحرية والمائية، خصوصا مع وضع هذا النشاط ضمن أنشطة عمل المؤسسات الصغيرة والمتوسطة.
ويبقى التسريع في بناء منظومة تشريعية واضحة المعالم، قادرة على إعادة إنتاج هذا المسار بطريقة أخرى، فمن جهة تعمل هذه المنظومة على تشجيع وتحفيز وتعزيز المبادرات المجتمعية المعززة لثقافة السباحة والاهتمام بتنشيط هذه المواهب لدى مختلف فئات المجتمع، وتشجيع إنشاء المؤسسات المعنية المتخصصة في نشر ثقافة السباحة، إلى جانب إنتاج تشريعات ضبطية محددة، مضبوطة بالجزاءات والعقوبات النافذة، على كل الممارسات المتعمدة المؤدية إلى التهلكة أو المتسببة في الإضرار بالنفس والآخرين كالدخول في الأودية وعبورها أثناء نزولها أو تعمد بعض الممارسات في تصوير هذه المشاهد في أثناء نزول الأودية وهو في موقع الخطر، وكذلك فيما يتعلق بالتزام معايير واشتراطات الأمن والسلامة والالتزام بتنفيذ السياج في المواقع السياحية المائية والبيئات البحرية والشواطئ إلى غير ذلك من الممارسات غير المسؤولة التي باتت تصاحب هذه الحالات الجوية، سواء ما يتعلق منها بالاستهتار ولفت الأنظار وحب الشهرة أو تجاوز تعليمات جهات لاختصاص، بحيث تضع المقتضيات القانونية والضبطية والجزاءات المحددة لكل سلوك أو ممارسة، ويؤسس في الوقت نفسه لمزيد من العمل الجمعي والمسؤولية الشخصية وفرص التطوع والتعاون مع الجهات المختصة في الحدِّ من حوادث الغرق المقلقة.

د. رجب بن علي العويسي
[email protected]