محمد بن سعيد الفطيسي
في بيئة استراتيجية متغيرة شديدة التعقيد والتقلب يملؤها الغموض والتوجُّس، يصدر المرسوم السُّلطاني رقم (27/ 2022) ليؤكد الحرص السَّامي على توجُّه علمي ورؤية وطنية أكاديمية مستقبلية طالما كتبت عنها شخصيا العديد من الدراسات والمقالات، وطمحت أن تأخذ حقها في الاهتمام والتركيز الأكاديمي والتوسع العلمي والبحثي الوطني أكبر مما هو عليه اليوم، سواء كان ذلك من الناحية العلمية أو التخصيص الأكاديمي في مؤسسة متخصصة، أقصد البحث العلمي في البُعد الاستراتيجي أو حقل العلوم والدراسات الاستراتيجية من خلال مؤسسة أكاديمية علمية وطنية.
ونحمد الله العلي القدير أن هذا الطموح قد تحقق على أرض الواقع بدمج عدد من المؤسسات الوطنية في كيان أكاديمي علمي موحد تحت اسم أكاديمية الدراسات الاستراتيجية والدفاعية، والتي هي نتاج دمج كل من كلية الدفاع الوطني، وكلية القيادة والأركان المشتركة، ومركز الدراسات الاستراتيجية والدفاعية بحسب المادة الثانية من المرسوم السلطاني سالف الذكر.
وتهدف هذه الأكاديمية الوطنية ـ بحسب المادة السادسة من المرسوم السلطاني ـ إلى تحقيق الأهداف التالية والتي نختار منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ تطوير الدراسات الاستراتيجية وفق الخطط والبرامج المعتمدة من الأكاديمية، توسيع آفاق الفكر الاستراتيجي والقدرة التحليلية ومهارات التخطيط الاستراتيجي لمنتسبي الأكاديمية، رفع قدرات المنتسبين للأكاديمية في مجال إدارة الأزمات والكوارث وفق خطط منهجية علمية، إجراء البحوث والدراسات الاستراتيجية والدفاعية وتطوير مهارات البحث العلمي في مختلف المجالات، بناء قاعدة بيانات استراتيجية عسكرية وأمنية متكاملة تكون رافدا علميا لوحدات الجهاز الإداري للدولة وغيرها من الأشخاص الاعتبارية العامة.
وهنا نطرح السؤال الآتي: ما أهمية وجود هذه الأكاديمية في هذا الوقت تحديدا بالنسبة لنا كدولة وكمواطنين على المستوى الوطني وكذلك في البُعد الدولي؟ ما أريد أن أقوله في هذا السياق هو التأكيد على أن البيئة الاستراتيجية للنظام الدولي الراهن تشهد عملية واضحة لإعادة التشكيل، وما يؤسف له وبحسب المشاهد من أبعاد هذا البناء القائم على التشكل يتضح أنه يحمل من المخاطر والتهديدات الكثير، وما يرفع من سقف تلك التهديدات أن الأدوات والإمكانات المتوافرة اليوم للفواعل الدولية الرئيسية والثانوية أكبر تقدما وقوة، حيث استغلال التكنولوجيا والثورة المعلوماتية.
على أنه وكما تحمل هذه البيئة الاستراتيجية من المخاطر والتهديدات الكثير، فهي كذلك تقدم للبعض العديد من الفرص والمكاسب، وأقول البعض؛ لأن هذا العطاء ليس بالتزكية أو الهبة أو المساعدة، بل بالانتزاع العلمي والإقدام الأكاديمي والبحثي والتقدم التكنولوجي والمعرفي، والمقدرة على استباق التفاعل داخل هذه البيئة الاستراتيجية وتطوير أعمال وتوجُّهات استراتيجية مناسبة لخدمة المصالح الوطنية، وضمان القدرة الاستباقية في بعدها الاستباقي والدفاعي لحماية تلك المصالح والأمن الوطني.
إذًا هذه الأكاديمية لن تكون مجرد ترف فكري كما يعتقد البعض، أو رقم حسابي يضاف إلى مجموع المؤسسات الأكاديمية والعلمية الوطنية أو الدولية، بل ستحمل على عاتقها أمانة وطنية كبيرة يقع على رأسها حماية الأمن والمصالح الوطنية وستتحمل الكثير من المسؤولية حيال تحقيق أهداف البُعد الاستراتيجي والدفاعي على المستويين الوطني والدولي لتلك المصالح كما هو مأمول.
على ضوء ذلك ندفع بهذه الملاحظات والتوصيات التي نأمل أن تؤخذ بعين الاعتبار بقدر المستطاع، وتجد لها متسعا من الوقت والاهتمام، لعل بها ـ بعد توفيق الله ـ ما يحقق المزيد من المكانة والرفعة والتقدم العلمي لهذه الأكاديمية الوطنية التي نطمح بأن تحقق أهدافنا الوطنية في بُعدها الداخلي والدولي في حقل العلوم والدراسات الاستراتيجية والدفاعية على النحو الآتي:
1-الحرص على مسألة توطين الوظائف الأكاديمية في هذه المؤسسة بقدر المستطاع لما لذلك التوجُّه من خصوصية وطنية ودواعٍ أمنية تقوم عليها توجُّهات هذه الأكاديمية بوجه عام، ويرتكز عليها حقل الدراسات الاستراتيجية والدفاعية على وجه الخصوص، مع التأكيد على أهمية الاستفادة من العقول الأكاديمية من بقية دول العالم كما هو موضح في المادة السادسة البند التاسع والعاشر، والمادة 12 والمادة 13 البند الرابع من المرسوم السلطاني رقم (27/2022).
2-للأمانة لم أطلع على المناهج الدراسية أو الكتب التي تدرس في هذه الأكاديمية أو الكليات المرتبطة بها، خصوصا في مجال الدراسات والعلوم الاستراتيجية أو الدفاعية، ولكن من باب خبرة أكاديمية وبحثية أوصي بالتركيز على المجالات الآتية في الدراسات الاستراتيجية والدفاعية؛ أولا: دراسة البيئة الاستراتيجية (المحلية والدولية) والتركيز على جوانب صياغتها وتقويمها وهياكلها، والفرق بينها وبين العلوم المتداخلة معها مثل السياسية والتخطيط والفكر الاستراتيجي. ثانيا: التركيز على مجال التحليل الاستراتيجي بشكل عام وبشكل خاص في المجال الاقتصادي والأمني والسياسي والإعلامي والاجتماعي والتقني مع الأخذ في الاعتبار كل ما يتعلق بالثورة المعلوماتية والتكنولوجية، سواء كان ذلك في البيئة الاستراتيجية الوطنية أو الدولية، وسواء تعلق ذلك بالفواعل الرئيسية (الدول أو المنظمات الدولية) أو الفواعل الثانوية (الشركات العابرة للحدود الوطنية، التنظيمات الإرهابية أو غير ذلك) أو القضايا والأزمات والكوارث والملفات المختلفة في البيئة الاستراتيجية الوطنية أو الدولية. خصوصا مجالات الاستشراف والدراسات المستقبلية في الأمن والاقتصاد والسياسية ومكافحة الإرهاب ودراسة الملفات والأزمات والكوارث المتصلة بالأمن الوطني، وهو ما أكدت عليه المادة السادسة والمادة الحادية عشرة البند السابع، والمادة الثالثة عشرة من المرسوم السلطاني.
عليه، يجب أن يكون لهذه الأكاديمية مناهجها الخاصة بالتدريس والتي تم تأليفها ووضعها لها تحديدا في الفترة القادمة وعلى أعلى المستويات والتعاون والارتباط الأكاديمي مع المتخصصين في حقل الدراسات الاستراتيجية والدفاعية، ويجب أن ترتكز على جانب المعرفة الاستراتيجية والدفاعية للبيئة الوطنية والمستويات المتداخلة لها مع البيئة الإقليمية والدولية، كما يجب التركيز على قضايا ذات أهمية استراتيجية ودفاعية رفيعة المستوى في جانب التدريب والتأهيل الأكاديمي للدارسين والمشاركين في برامج هذه الأكاديمية، خصوصا القضايا المتعلقة بالدراسات الاستشرافية والمستقبلية ودراسات الاستراتيجية وحقول المعرفة المتعلقة بالدراسات الدفاعية والاستباقية لمختلف القضايا والملفات.
3-كنت في غاية السعادة للتركيز على اللغة العربية كأساس للدراسة والتدريس في هذه الأكاديمية الوطنية العربية، وهو جانب ستتأكد فوائده في المستقبل بإذن الله مع التأكيد والحرص كذلك على الاهتمام ببقية اللغات ذات الارتباط الأكاديمي كما نصَّت على ذلك المادة الثالثة من المرسوم، لذا سأتجاوز هذه النقطة للتركيز على أهمية التوسع الجغرافي في المستقبل القريب لهذه الأكاديمية، وكل الأمل أن يكون ذلك خارج محافظة مسقط كما أكدت ذلك المادة الثانية من المرسوم والسادسة البند التاسع، والمادة الحادية عشرة البند الثالث، والمادة الثانية عشرة، خصوصا أن هذا التوسع سيحقق الجانب الاستراتيجي في تحقيق التوازن الجغرافي والأمني لتوزيع المعرفة والفكر الاستراتيجي بين المحافظات، كما أن ذلك سيساعد على رفع كفاءة الأمن الاستراتيجي والدفاعي خصوصا في حال توسعت هذه الأكاديمية لتشمل المحافظات الحدودية خصوصا مثل ظفار وشمال الباطنة والظاهرة ومسندم.
4-فتح باب الزمالة والارتباط الأكاديمي للخبراء والمستشارين والمتخصصين بحقل الدراسات الاستراتيجية والدفاعية، سواء من السياسيين والاقتصاديين والأمنيين والقانونيين وبقية حقول المعرفة الاستراتيجية والدفاعية خصوصا العمانيين منهم، مع أهمية وجود المرونة في الاستفادة منهم بقدر المستطاع، كما نؤكد على أهمية التعاون مع هذه الأكاديمية الوطنية من قبل جميع المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية الوطنية، ونحرص على النقطة الأخيرة لأن الدراسات والبحوث التي ستقوم بها هذه الأكاديمية يفترض أنها مرتبطة ارتباطا وثيقا بجميع مؤسسات الدولة ومرافقها خصوصا المدنية منها، فالاستراتيجية والدراسات الدفاعية بيئة متكاملة ومرتبطة بمختلف حقول المعرفة والتداخل وهو حال التداخل مع البيئة الإقليمية والدولية في ذات الحقول والمعارف والعلوم الاستراتيجية والدفاعية.
5-المأمول في المستقبل أن تتوسع هذه المؤسسة العلمية الوطنية في توجُهاتها الأكاديمية والمعرفية الاستراتيجية لإصدار مجلة محكمة في الدراسات الاستراتيجية والدفاعية، تكون رافدا للمعرفة الاستراتيجية في البيئة الاستراتيجية الوطنية والدولية ومرجعا للكلية في القضايا والملفات المرتبطة بسلطنة عمان، خصوصا والمصالح الوطنية العمانية العابرة للحدود الوطنية وما يرتبط بها من فواعل رئيسية وثانوية، كما نأمل أن تعزز مكتبة هذه الأكاديمية بالكتب والمراجع التخصصية في مختلف مجالات المعرفة الاستراتيجية وفي جميع حقوق المعرفة ذات التداخل، فمكتبة الجامعة هي المرآة المعرفية للناظر لها من الداخل والخارج والمعبر عن مستوى الاهتمام الأكاديمي والمعرفي والطموح المأمول والاهتمام المنشود من قبل القائمين عليها في مختلف المستويات العليا وما دون ذلك.
ختاما. كل الأمنيات لهذا الصرح الوطني بالتقدم والرفعة والمكانة الوطنية والدولية اللائقة والمستحقة، وأن نسمع عنه كل ما يثلج الصدر في المستقبل من حيث تحقيق الأهداف المأمول تحقيقها أو النتائج العملية على أرض الواقع، كما أسأل الله العلي القدير أن يوفق القائمين عليه للدفع بهذه الأكاديمية إلى الأمام والتفوق والنجاح لما فيه خير الوطن والمواطن.