[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/waleedzubidy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]وليد الزبيدي[/author]
تبقى قصيدة الراحل الجواهري عن نهر دجلة واحدة من القصائد الخالدة في مسيرة الشعر العربي، وبالإضافة لعبقرية الجواهري التي تجسدت في الكثير من قصائده ومن بينها هذه القصيدة، فأن حضور دجلة في الذاكرة العراقية والعربية قد اعطى هذه القصيدة طعما آخر.
اصاب الجواهري الأرق لأنه ابتعد أو سافر وربما تخيل نفسه بعيدا عن دجلة لاشهر أو ايام، فأصابه رعب الفراق ودهمه شوقه للنهر الذي يخترق بغداد، فقال:
يا دجلة الخير يا نبعا افارقه على الكراهة بين الحين والحين
إني وردت عيون الماء صافية نبعا فنبعا فما كانت لترويني
لا يرتوي الجواهري إلا من منظر دجلة، حيث تنساب امواجه وتطير فوقه النوارس وتسير بين مويجاته الزوارق ويصدح على ضفته صوت يوسف عمر ومحمد القبنجي.
تحتشد بيوت الكرخ وتقابلها احياء بغداد القديمة، القشلة والسراي وتصل حتى تخوم الاعظمية نزولا إلى الكرادة، تحف الاشجار شارع ابو نؤاس، ويقطع الجواهري جسور ساحة الشهداء والباب الشرقي والاعظمية والجسر المعلق، فلا يجد بين ضفتي دجلة إلا الهدوء والدعة والترحاب به في كل مكان، فكيف يتخيل نفسه بعيدا عن هذا الدفق الهاديء والمنظر الخلاب.
ماذا لو وقف اليوم شاعرنا الكبير الجواهري يتأمل الخوف والرعب المبثوث بين مويجات دجلة وعلى سطحه وبين نبضاته، أي قريحة ستتفجر في داخله وماذا سيقول ، ربما يغزوه الحزن الذي لم تشهده بغداد لعقود طويلة وقد يفترسه التشظي فيركع صاغرا بوجه زلزال مخيف يضرب بغداد.
وإذا اجادت قريحة شاعر لا يركع امام الطوفان، فماذا سيتلوا أمام دجلة، القلق والغضب والانكسار.
سيهاجم من؟
سيغضب على من؟
هل سينكفيء ويستقل اقرب طائرة ويغادر بغداد منهزما كما فعلنا، ويترك الامواج تتقاذف بغداد، وتطيح بناسها واحدا بعد الاخر وجيلا بعد جيل.
عندما خنعت بغداد لمن اراد رميها في وسط الزلزال، فأن ناسها قد سجلوا خنوعا خطيرا ، لمجرد قبولهم بالطوفان وصمت الكثير منهم دون أن يتحسسوا خطورته.
دجلة هو الفرات ، وبغداد هي مدن وقرى العراق الأخرى، فإذا تنهمر دموع الجواهري منسابة بين نبضات امواج دجلة، فأن شعراء آخرين يبكون دما على انهار ومدن وقرى واحياء في مناطق العراق المترامية الاطراف.
شعراء كثيرون تغنوا بدجلة وبغداد وبالبصرة والفرات ، لكن عاصفة العراق الحالية القت بصمتها على الكثير من المبدعين ، هناك من يبكي بصمت واخرون ما زالوا يعيشون تحت الصدمة المتواصلة ، وثمة من مات في داخله شيطان الشعر .
يا دجلة الخير يا أم البساتين.
بصوته المتهدج يتكلم إلى بغداد ونهرها ، يناغيه ويربت على ضفتيه، يتغنى به لكي لا يغفو ساعة فتهرب نوارسه.
هذا غبار يتردد فوق دجلة، وذاك ظلام يتدكس بين نبضات امواجه.
فمن يكتب قصيدة صباحات بغداد الجديدة.