علي بدوان:
في مسارات الأزمة الأوكرانية، تأخذ جمهورية الصين الشعبية حيزًا وافرًا من مسارات الأزمة والصراع، ووفق سياسة مدروسة تجنبها الدخول في متاهات السياسات والأزمات الدولية، وذلك لسببين بسيطين، الأول يتعلق بمكانتها كدولة كبرى من دول العالم، وعضو دائم ومُقرر في مجلس الأمن الدولي. والثاني يتعلق بالتحالف الاستراتيجي بين موسكو وبكين حتى في ظل الأقاويل المُتعددة، التي تطعن بتلك العلاقة وتُشكك بها، وتُنظِّر للقول بأن الصين الشعبية غير مُكترثة لعلاقاتها مع موسكو في ظل الأزمة الأوكرانية وتفاعلاتها الأوضاع الدولية المتعلقة بالأمر، خصوصًا بين دول الاتحاد الأوروبي. فالموقف الصيني ليس مواليًا لروسيا مائة بالمائة، بقدر ما هو معادٍ للولايات المتحدة الأميركية، واشنطن التي تَعد الصين الشعبية منافسًا اقتصاديًّا وتجاريًّا واستثماريًّا كبيرًا لها في العالم، وقد باتت تمتلك ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
وفي حقيقة الأمر، إن ما عزز من مسارات العلاقات الروسية الصينية الإيجابية، وأعطاها قيمة كبيرة ودفع مختلف، عندما حاولت العديد من الدول الكبرى كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي (تفكيك) تلك العلاقة لصالح الموقف الأمريكي والغربي من الأزمة الأوكرانية، وسعي واشنطن لتوسيع حلف "الناتو" من خلال زيادة انضمام بعض الدول الأوربية إلى الحلف.
إن بكين، وبطريقتها المعهودة في التعاطي مع الملفات والأزمات الدولية، البسيطة والمعقَّدة على حدٍّ سواء، تحاول أن تتجنب التصادم مباشرة، مع سياسات الآخرين، خصوصًا الدول الكبرى والنافذة، وتبدو في هذا الأمر كقوة سياسية كبرى لكنها مُحايدة، تبحث عن مصالحها الاستراتيجية على امتداد المعمورة.
لذلك، إن بكين، في الواقع الراهن، وفي الأزمة الأوكرانية الأخيرة، تدعو الروس والأوكرانيين إلى "ضبط النفس" وإلى التفاوض مباشرة، ووقف "قرقعة السلاح"، ومنع استمرار توسيع النيران العسكرية والسياسية في أوكرانيا، مع انتقاد قيام واشنطن بالسعي لتوسيع حلف شمال الأطلسي "الناتو" بضم دول أوربية جديدة للحلف.
وفي الوقت نفسه. وعندما سُئل أحد القادة الصينيين عن تقارير أفادت بأن موسكو طلبت من بكين المساعدة العسكرية وغير العسكرية، اتهم الولايات المتحدة الأميركية مباشرة، "بنشر معلومات مُضللة" وكاذبة، ضد الصين الشعبية. وأضاف بقوله: "هدفنا واضح جدًّا وهو الدفع باتجاه تهدئة الوضع... وإنهاء النزاع وفرملته، لا زيادة النار المُشتعلة، وتمدّدها في القارة الأوربية والعالم".
لذلك نستطيع القول بأن جمهورية الصين الشعبية تتعرض لضغوط دبلوماسية كثيفة للدخول في أتون تلك الأزمة الأوكرانية، خصوصًا من قبل الولايات المتحدة التي تُريد رفع مستويات الضغط على موسكو بإبعادها عن حليفها الاستراتيجي الصيني، لكن يبدو أن بكين غير مُكترثة بكل هذا، إن لم نقل إنها و"بأبسط الحالات" مُترددة في التخلي عن صديقها التقليدي موسكو.
وانطلاقًا من ذلك، تعمل واشنطن على زيادة مفاعيل سلم العقوبات وتدرجها على موسكو: كتجميد أصول، وحظر تصدير بعض المنتجات إلى موسكو، والسعي لشل قطاعها المصرفي وإغلاق المجال الجوي الأوروبي أمام الشركات الروسية، ومنع تبادل قطع غيار للطائرات...إلخ.
وهنا، نستشهد بما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، ونقلًا عن مسؤولين في إدارة البيت البيض، فقالت إنها تعد أن موسكو باتت "معزولة"، وإن "عملتها المحلية الروبل تتدهور"، وقد تكون طلبت من جارتها الصين الشعبية "مساعدة اقتصادية وعسكرية". وخصوصًا أن بكين مُتعطشة للطاقة في مواجهة الغرب الذي يقول الآن إنه يريد تقليل اعتماده على المحروقات الروسية، حيث من الطبيعي لروسيا أن توجه أنظارها إلى الصين الشعبية التي لا تزال متعطشة للطاقة، ولا يوجد لديها مكامن طاقة في أراضيها للاستهلاك المحلي أصلًا (لا غاز ولا نفط أحفوري، اللهم سوى كميات متواضعة في آبار موجودة في إقليم تشينيانغ غرب الصين الشعبية)، بهدف تعويض الطاقة وتوفيرها للأسواق وآلة الإنتاج في الصين الشعبية، حيث تُعد الصين ثاني أكبر مُستهلك للطاقة في العالم. فالصين الشعبية تُفكّر في مصالحها في نهاية الأمر، والطاقة مصلحة أساسية لا يُمكن القفز عنها بالنسبة للصين الشعبية، أو تجاهلها حتى من قبل الحلفاء.
وعليه، تُشير مختلف المصادر المختلفة إلى أن الولايات المتحدة عبَّرَت في أواخر آذار/مارس 2022 عن "قلقها العميق" إزاء ما أسمته "انحياز" بكين إلى موسكو، بعد لقاء تم عقده في العاصمة الإيطالية (روما)، بين مستشار الأمن القومي الأميركي (جيك سوليفان)، وأرفع مسؤول في الحزب الشيوعي الصيني للشؤون الدبلوماسية، (يانج جيشي). وقال وزير الخارجية الصيني، (وانج يي)، بعد اللقاء، إن "الصين ليست طرفا في الأزمة (الأوكرانية) ولا تريد حتى أن تتأثر بالعقوبات".
إن العقوبات الغربية على موسكو تتسبب في الإضرار بحركة التجارة المتبادلة والمستمرة بين الصين الشعبية وروسيا، من هنا نلحظ أن بكين حثت وما زالت الولايات المتحدة على معالجة مخاوف بكين والامتناع عن إلحاق الضرر بالمصالح الصينية في أعقاب فرض عقوبات على موسكو من قبل واشنطن. لذلك سَبَقَ وانتقدت العقوبات الغربية على روسيا مُشددة على أنها لا تُفيد بالحل. ويرى مراقبون أن هذه الاتهامات المتبادلة والحرب الكلامية بين حلف "الناتو" والصين الشعبية، قد تقود لتقارب أكثر بين موسكو وبكين (وهو ما يجري على أرض الواقع) في ظل الأزمة الأوكرانية الحادة التي تلقي بظلالها السلبية على العلاقات المتوترة أصلًا بين الولايات المتحدة والصين الشعبية.
ولا ننسى في هذا المقام، أن جمهورية الصين الشعبية دولة كبرى، وعضو دائم في مجلس الأمن الدولي، وبالتالي لا يُمكن تجاهلها، أو تقزيم وتحجيم دورها، فهي دولة مُقررة في نهاية المطاف، وتملك حق (النقض/الفيتو)، وبالتالي لا يُمكن للولايات المتحدة، أن تجعل منها "لقمة سائغة في مرمى السياسات الدولية والإقليمية".