الأمانة والخيانة ودورهما في المسؤولية (2 ـ 2)

أجرى اللقاء ـ أحمد بن سعيد الجرداني:
اخي القارئ الكريم.. تحدثنا في الموضوع السابق عن الأمانة ومدى عواقب الخيانة.. ونواصل اللقاء حول هذا الموضوع مع السيد الدكتور أحمد بن سعيد البوسعيدي ـ خبير وعظ وإرشاد بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ونائب رئيس الجمعية العمانية للعناية بالقرآن الكريم فمع الموضوع ..
* السيدالدكتور أحمد.. حقوق الأسرة أيضًا أمانة.. هل لكم من وقفات حول ذلك؟
ـ جاء في الحديث:(وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ)، فكل فرد من أفراد الأسرة كما أنه له حقوقا فإن عليه واجبات، وهي أمانة في عنقه عليه أن يقوم بها ويوفي أداءها، ولو قصر الآخرون في حقوقه، فربُّ الأسرة عليه ألا يضيع أسرته، وأن يحافظ على قوام هذه الأسرة وتماسكها، ويعمل على توفير مختلف الاحتياجات لها، سواء كانت المادية منها أو المعنوية، فكما أنه يقوم بتوفير المطعم والمسكن والملبس، عليه أن يقوم بتوجيه أفراد أسرته بتعاليم هذا الدين الحنيف، وتربيتهم التربية الإسلامية الصحيحة، ومن ذلك تعليم الأولاد القرآن منذ نعومة أظفارهم، وأن يقدمه على سائر العلوم، لأنه العلم الذي يوصلهم بخالقهم، روى أَبُو عُبَيْدَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ:(بَلَغَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ:(عَلِّمُوا أَوْلادَكُمُ الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُتَعَلَّمَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ هُوَ) (رواه الربيع)، فالأمانة تشمل مختلف نواحي حياة الإنسان الأسرية أو الوظيفية وغيرها، والإنسان تحمل هذه الأمانة بمقتضى مكانته وأهليته لذلك، وعليه ألا يضيع هذه الأمانة بالظلم أو التجاهل أو التضييع، يقول تعالى:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)، والإنسان كذلك مستأمن على القيام بمسؤولياته والالتزامات التي أوجبت عليه، وعليه أن يراعي مقتضيات هذه الأمانة وتبعاتها، فالله تعالى يقول:(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ)، ومن ضمن هذه الأمانات والعهود التي على الإنسان رعايتها والقيام بشؤونها أمانة الأسرة التي هي نواة المجتمع، والتي بصلاحها يصلح المجتمع ويرقى.
* الخيانة والأمانة بينهما فرق كبير.. نريد منكم توضيح ذلك؟
ـ تبين لنا معنى الأمانة وأنها قائمة على الوفاء والثقة والأمان بين الناس، وأما الخيانة فهي ضدها، يغلب عليها عدم الأمان بينهم أو عدم الوثوق بهم أو عدم الوفاء لهم، ومن ذلك ما ورد في معجم مقاييس اللغة لابن فارس:(خَوُنَ) الْخَاءُ وَالْوَاوُ وَالنُّونُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ التَّنَقُّصُ. يُقَالُ خَانَهُ يَخُونُهُ خَوْنًا. وَذَلِكَ نُقْصَانُ الْوَفَاءِ، فالخيانة تدل على النقص أو التضييع لمقتضيات الأمانة.
* هل تستقيم الأمور عندم تختل منها الأمانة؟
ـ التعامل بين الناس معتمد على مبدأ الثقة بين الآخرين، فالذي تثق به تأمن جانبه وتعتمد عليه، وتطمئن في إعطائه أماناتك المادية منها والمعنوية، وأما إذا حدث نقص لهذه الأمانة فإن جانب الثقة بالآخرين سيضطرب، وجانب الأمان والاطمئنان لديهم سينهار، وهذا أمر بالغ الخطورة؛ فكيف تستقيم حياة الإنسان إذا فقد الأمان فيمن حوله، والإنسان كما هو معلوم مدني بطبعه، مائل إلى بني جنسه، ومصالح الناس مشتركة، فكيف يقضي مصالحه، وكيف يسير أمور معاشه وهو لا يثق في الآخرين ولا يستطيع أن يعتمد عليهم في الأعمال أو قضاء المصالح، لذا ورد التحذير من الخيانة بمختلف صورها وأشكالها، يقول الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)، فلا يصح للمؤمن أن يخون الأمانة التي أؤتمن إياها، سواء بينه وبين خالقه ورسوله، أو بينه وبين الناس، فانتقاصه في الوفاء بالعهد مع الله أو رسوله بالتفلت من الالتزام بما أوجبه الله عليه ورسوله، وتقصيره في القيام بالعبودية الحقة والامتثال التام لأوامر الله ورسوله يعد خيانة لهما، كما أن تقصيره في الالتزام في حق وطنه وحق الناس عليه يعد خيانة كذلك.
* الخيانة في الأمانة لها بعد في هدم المجتمعات.. كيف نفهم ذلك؟
ـ خيانة الأمانة تسبب ضرب المنظومة الأمنية في المجتمع، وتؤدي إلى عدم الاستقرار فيه، فإذا انعدمت الأمانة انعدم الأمان؛ فإن فقدت الأمانة من الأسرة كيف يستقر الأفراد؟ وإن سلبت الأمانة من المجتمع فكيف تستقر الأسر؟ وإن تدهورت الأمانة في البلدان فكيف تستقر المجتمعات؟ وهذا يوصلنا إلى نتيجة مهمة وهي أن الأمانة صمام الأمان لتماسك المجتمع، فإن فقدت انهدم المجتمع وتدهور، وكلما قويت الأمانة في مجتمع زاد الأمان فيه والاستقرار، وزاد على إثر ذلك البناء والتطور والتقدم، لذا نجد أن النبي (عليه الصلاةوالسلام) شدد النكير على الخيانة وعلى النقص من الأمانة حتى في أدنى المستويات، وأن ذلك دال على انتفاء الإيمان الحقيقي، فالمؤمن ملتزم بالوفاء بجميع ما عليه من واجبات تجاه الآخرين وفي مقدمتهم أسرته وأهله وجيرانه، بل ويكف شروره عنهم، فجانبه مأمون، وعهده مصون، ومن ذلك أَن النَّبيَّ (صلالله عليه وسلم ) قَالَ:(واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، واللَّهِ لا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يا رسولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذي لا يأْمنُ جارُهُ بَوَائِقَهُ) (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ)، ومن جهة أخرى فإن المؤمن يلتزم هو بحفظ الأمانة والإيفاء بها ولو خانها الآخرون واعتدوا عليها، وكل ذلك في سبيل الحفاظ على نسيج المجتمع من التفكك والتشرذم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُن من خانك) (رواه أبو داود والترمذي)، ومن هذا القبيل كذلك شدد الإسلام النكير على كل ما يدعو إلى ضرب الأمانة في المجتمع أو النقص منها أو اهتزازها؛ لأن ذلك يعد صورا من صور الخيانة، ومن ذلك الكذب وإخلاف الوعد وإفشاء السر.. وغيرها، فالكلمة أمانة والوعد أمانة والسر أمانة، وقد جاء عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:(آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذ وعد أخلف، وإذا ائتُمن خان) (متفق عليه.
* في نهاية هذا الحوار..هل لكم من كلمة تختمون بها للقراء؟
ـ نقول في الختام أن موضوع الأمانة موضوع له أهمية كبرى، لذا فإنه من الضروري العناية به على مختلف المستويات، ومن المهم أن يتعلمه المرء ويتدرب عليه منذ نعومة أظفاره، ومن ذلك تغذية مختلف المناهج والدروس بتطبيقات الأمانة في مختلف المجالات وشتى التخصصات، ومتابعة الالتزام بالأمانة وعقد الحلقات والندوات والمؤتمرات والدروس والمحاضرات عن الأمانة وتطبيقاتها المعاصرة للموظفين في المؤسسات المختلفة ولسائر أفراد المجتمع، إضافة إلى إعادة النظر في النظم والقوانين والأحكام المتعلقة بالأمانة والخيانة، لتكون متساوقة مع الهدي الإلهي الذي شرعه الله للبشر، لأنه العالم بهم والمطلع على ما يصلحهم ويكفل لهم الأمن والأمان والسعادة والاستقرار، فتكرار تذكير المؤمن بالأمانة يفيقه من غفلته وينتشله من غيه، يقول تعالى:(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)، وهذا التذكير يولد الرقابة الإلهية في نفس المؤمن، ويشعل جذوة الإيمان لديه، ويحفزه إلى تحري الأمانة والقيام بها على أكمل وجه وبأقوم سبيل.