محمد عبدالصادق:
بمناسبة تحذير الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من خطر حدوث مجاعة في إفريقيا، إذا استمرت الحرب الروسية الأوكرانية أكثر من 12 شهرا، حيث ينتج البلدان القدر الأكبر من الحبوب والزيوت التي تعتمد عليهما معظم دول القارة الإفريقية لإطعام شعوبها، هناك محن ومجاعات عديدة مر بها العالم جراء الحروب والصراعات، أو نتيجة الجفاف ونقص المياه، كما حدث في مصر وبلاد الشام في القرون الوسطى، عندما أدى نقصان مياه النيل وسوء الإدارة في عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله ـ الذي امتدت فترة حكمه لستين عاما ـ لمجاعة رهيبة امتدت لسبع سنوات متصلة من العام (457هـ ـ 1065م) إلى سنة (464هـ ـ 1072م).
وقد أفاض المؤرخون فيما أصاب الناس جراء المجاعة؛ من قلة الغذاء وغلاء الأسعار، حتى بيع رغيف الخبز بخمسة عشر دينارا، بعد أن كان يباع العشرون رغيفا بـ5 دراهم، وصاحب هذه المجاعة انتشار الأوبئة والأمراض التي فتكت بقرابة عشرة آلاف مصري، ولم يكن عدد سكان مصر يزيد عن مليوني نسمة في ذلك الوقت، واختفى الباعة والمشترون من الأسواق لعدم وجود بضائع ولا أموال، وبارت الأراضي الزراعية لعدم وجود من يزرعها، وباع الخليفة ممتلكاته، وفرت أمه وبناته إلى بغداد، وساءت به الحال حتى أنه كان يقبل الصدقات من بعض الميسورين ليسد رمقه من الجوع.
يقول المقريزي: ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات وكثرة الفساد، وبيعت البيضة بعشرة قراريط من الأرض، وبلغ سعر شربة المياه دينارا، وبيعت دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارا اشترى صاحب الدار بها أقل من أردب دقيق، وعم مع الغلاء وباء شديد، وساد الخوف وانعدم الأمن، فتقطعت الطرقات برا وبحرا، وبيع رغيف خبز زنته رطل في زقاق القناديل، عن طريق المزاد كما تباع التحف والمجوهرات، ووصل الحال بالناس إلى أكل الكلاب والقطط، فبيع الكلب بخمسة دنانير.
وحكي أن أول مظاهرة نسائية في التاريخ، قامت بها امرأة مصرية في عهد المستنصر بالله، حين ساءت الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وكانت قائدة المظاهرة أرملة الأمير جعفر بن هشام، ويقول عنها المقريزي: ..ومن غريب ما وقع أن امرأة من أرباب البيوتات، أخذت عقدا لها قيمته ألف دينار، وعرضته للبيع مقابل دقيق، والكل يعتذر لها، ويدفعها عن نفسه إلى أن استجاب لطلبها أحد التجار، وباع لها تليسا "شوال" دقيق، فلما أخذت الشوال أعطته لمن يحميه من النهابة، فلما وصلت باب زويلة تسلمته من الحراس ومشت به قليلا، فتكاثر عليها الناس وانتهبوه نهبا، فأخذت هي أيضا مع الناس ملء يديها دقيقا، ثم عجنته وخبزته، فلما صار قرصة أخذتها معها، ووصلت إلى أحد أبواب قصر الخليفة، ووقفت على مكان مرتفع، ورفعت القرصة على يديها بحيث يراها الناس، ونادت بأعلى صوتها: يا أهل القاهرة .. ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تحصلت على هذه القرصة بألف دينار، فلما وصل الخبر للخليفة، أحضر الوالي وهدده وتوعده، وأقسم بالله إن لم يظهر الخبز في الأسواق، ويرخص سعره سيضرب عنقه.
وقبل الشدة المستنصرية، كانت الدولة الفاطمية أعظم دولة إسلامية، من حيث القوة العسكرية والاقتصادية، والأمن والرخاء والمساحة، وامتد سلطان الفاطميين إلى بلاد الشام وصقلية وشمال إفريقيا، ودعي له على منابر مكة والمدينة واليمن، ولأول مرة يتم الدعاء لخليفة فاطمي من على منابر بغداد والبصرة دون الخليفة العباسي.
في الفترة الثانية من حكم المستنصر انفصلت عن حكمه بلاد شمال إفريقيا وجزيرة صقلية، وزالت سيادته على الحجاز بعد أن انقطعت أموال الفاطميين عنها، ولما زاد الاضطراب والفوضى، أرسل المستنصر إلى أمير الجيوش بدر الجمالي حاكم عكا يطلب منه المجيء لإنقاذ الخلافة، وعندما رجع إلى مصر أعطاه السلطة المطلقة في إدارة أمور البلاد، وبفضل عودة فيضان النيل لطبيعته، نجح الجمالي في إصلاح الحال ووقف المجاعة، وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، إلى أن توفي في سنة 487هـ ولحقه المستنصر بعد 6 أشهر، وكانت الشدة المستنصرية سببا في ضعف وانهيار الدولة الفاطمية وانتهاء عصر خلفائها الأوائل.