سعود بن علي الحارثي:
أينما يمَّم السائح، والباحث عن الراحة والمتعة والاستجمام والتأمل والإثارة والمغامرة... في محافظات عُمان وولاياتها ومدنها وقراها، أوديتها وجبالها ورمالها وشواطئها وصحاريها وسهولها، ومعالمها التاريخية والأثرية عالية القيمة، ومواقعها السياحية الجذابة، فسوف يجد كل ما يبحث عنه وينشده ويتطلع إليه، وسوف يصل ـ دون شك ـ إلى قمة الإبهار والشغف بما سوف يكتشفه من مفاجآت تتعلق بجمال الطبيعة وتنوعها وأناقتها، وإنجازات الإنسان العُماني المتقنة والمتفردة في محيطها، بثرائها العمراني والتراثي والفني والجمالي والعلمي والثقافي... ومشاهد وصور البيئة والتقاليد والأعراف التي تقدم محتوى يرضي كل الأذواق والأعمار والمتطلبات، بل إن معظم ما يصادفه ويراه ويطلع عليه، المكتشف والرحالة والباحث سوف يثير تساؤلاته ويحفزه على التفكير والحفر عميقا وإطلاق الحوارات حول الغايات والمقاصد من إقامة هذه القرية ـ على سبيل المثال ـ المحصورة بين الجبال أو في قممها أو سفوحها أو على ضفاف الوادي...؟ كيف تم اختيار الموقع؟ وما تاريخ تأسيسها الحقيقي؟ ومن هو أول من أسَّسها؟ وكيف صُممت وبُنيت؟ ومن أين كان يؤتى بمواد ومكوِّنات بناء بيوتها ومرافقها، والقلاع والأبراج، خصوصا الأبواب والنوافذ والجص وما شابه؟ ومصدر غذاء وحاجات سكانها من السلع والبضائع؟ وما هي وسائل النقل التي كانت تنقلها رغم وضاعة وهشاشة وبدائية هذه الوسائل؟ وما دلالات ومعاني الاسم الذي أطلق عليها؟ وكيف تدار وتصان وتعمر وتتسع؟ ومن أول من سكنها من البشر؟ وهذه القلاع والحصون والأبراج والأسوار والحارات والأسواق القديمة... التي تتوزع بهذا الثراء في قمم الجبال وسفوحها وبطون الأودية والسهول ألا تؤكد على صلابة العماني وإرادته وبراعته وإبداعه وعصوره التاريخية المزدهرة؟ الهجرات الأولى، الدوافع، المعاني والدلالات، الفوج الأول من الشخصيات التي وصلت، نمط الحياة، الحروب والصراعات، أساليب المعيشة، كيفية إدارة الإنسان لمتطلباته المالية وأعماله وأمنه ومرافق قريته أو حارته... جميعها محل بحث وتساؤلات وتنقيب. الأساسات والدعامات من آثار ومعالم وعناصر بيئية وطقس متنوع، متوفرة وتحتشد بها عُمان، ولا خلاف على ذلك، الغائب عن مشهد السياحة، وملاحظات السائح الناقدة ودوافع السخط والإحباط ترتبط جلها بالخدمات السياحية ومشاريعها واستثماراتها في بُعدها الترفيهي والخدمي والتسويقي وترميم وتأهيل وصيانة وحفظ المعالم والآثار والحارات والمرافق القديمة والأثرية والتاريخية من الاندثار والتشويه والعبث والتخريب والتآكل والتي يشوبها الضعف والبطء واتساع الفجوة بين التنظيرات والبرامج والاستراتيجيات، وبين التطبيق والتنفيذ، وهو ما نراه ونرصده ونكتبه في عشرات المقالات المنشورة، وتتناوله الملاحظات التي تحتشد بها وسائل التواصل، فكم من الحارات والأسواق والقلاع والأسوار والبوابات القديمة تهدمت أو استعصت على الترميم، أو لا تزال مغلقة في وجه الزائر أو تنقصها الخدمات والفعاليات والأنشطة المصاحبة والجماليات التي تستهوي السائح، قبل أيام زرت ولاية سمائل فوجدت القلعة المرممة بأموال سخية مغلقة، والسوق القديم والحارات ـ للأسف الشديد ـ أثرا بعد عين. وفي مثال آخر، وادي الخوض الخصب، الذي يُعد متنفسا طبيعيا لمحافظة مسقط، ولا تكاد المياه الطبيعية الجارية تجف في مجاريه وجداوله، ويمتد من سمائل فبدبد وإلى مدينة فنجاء والخوض، ويمتلك جميع المُقوِّمات السياحية الطبيعية، كالمياه الجارية، والقرى على شواطئه، والأفلاج المعلقة في سفوح جباله، والمضائق... خالٍ من أية خدمات ولمسات جمالية وترفيهية، فلا تشجير ولا مظلات ولا مماشٍ ولا دورات مياه... وفي صباحات ومساءات الإجازات الأسبوعية، وما بينهما من ساعات قائظة تتكدس الأسر في مجاريه تحت الشمس الحارقة، وبعضها بحث عن شجرة هنا أو هناك بعيدة جدا عن المياه بالكاد قادرة على تشكيل ظل يقي من الأشعة الحارة، والمشهد ذاته ينطبق على وادي عدي ـ العامرات، ويتكرر المشهد المؤلم في عشرات القرى والمدن والحارات القديمة والأودية والمواقع السياحية، فإلى متى سنظل متفرجين إلى حال تراثنا وآثارنا ومعالمنا التاريخية وهي ترزح تحت وطأة الزمن وتتلاشى شيئا فشيئا، والخدمات السياحية لا تشهد تقدما يذكر؟ الأسبوع المنصرم، تجاوبنا مع مبادرة صديقنا العزيز "أبو الزهراء"، علي بن عبدالله الحارثي لزيارة "رمال وهيبة"، وقضاء ليلة في إحدى مخيماتها السياحية، والاستمتاع بمشاهد الطبيعة بجمالها البكر، في الرمال الساحرة، وبمنظر غروب الشمس وشروقها المغري لعشاق التأمل في عجائب خلق الله وجمال ما خلق، ونجوم الليل المتلألئة في سواده، وهدوء المكان، والاستئناس بأصوات الحشرات والحيوانات التي تمتزج بحفيف الرمال تذروها الرياح. في طريقنا إلى ولاية بدية، عرجنا على ولاية إبراء، المحطة السياحية الأولى، "حيث القطين ملوك الناس قحطان"، والتي لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاوزها وفيها من أمجاد العمانيين وتاريخ الآباء وإنجازات الإنسان وابتكاراته عبر العصور ما يعجز الزائر لهذه الولاية من مشاهدته وحصره في يوم واحد، كيف لا ومسجد "ذو القبلتين"، يؤكد على عراقة وازدهار إبراء وثرائها العمراني والسياحي... أخذنا جولة بالأقدام في حارات "المنزفة" و"القناطر" والسباخ"، وسوق إبراء القديم، الذي يحكي تاريخه المكتوب والشفهي عن الازدهار التجاري، والحركة الاقتصادية النشطة، كانت الحوارات والنقاشات بين الأصدقاء تشي بالانبهار والإدهاش بهذه الكنوز الأثرية والقصور الفخمة والأسلوب المعماري الغني بالجمال والمتانة والإتقان، والغضب والإحباط من جانب آخر بالإهمال واللامبالاة والتقصير التي أدَّت إلى تهدم وخراب معظم هذه الآثار والصروح الحضارية، من حارات إبراء، توجهنا إلى مشاهدة أبراج وقلاع وقصور وبوابات وأسوار "المضيرب" و"القابل" و"الغلاجي"، حيث انتصرت هذه الصروح على الزمن وبرهنت على فناء البشر، فيما ظلت أعمالهم خالدة تعرف بهم، وبتفردهم وعبقريتهم وإبداعهم وسيرتهم في الأيام الخوالي، وبقيت آثارهم تضيء المدن وتثري الإبداع الإنساني، وتحفز على التفكير والتنقيب والبحث وتعمق المعرفة، تتجلى من جنباتها روعة الإبداع، وجمال التصميم، وألوان الحياة الزاهية التي كانت تعطر أعمال مشيدي هذه العمائر. من ولاية القابل، انطلقنا نحو مقصدنا الرئيسي، ومن قرية "الراكة" بولاية بدية أحاطت بنا أمواج الرمال الناعمة من كل الاتجاهات، وقد أضاءت حباتها الدقيقة شمس ما قبل الغروب، فبدت في مشهد خرافي يدعو إلى الصمت والتأمل والاستمتاع بكل ثانية يقضيها المرء في هذا المكان الساحر. كانت ليلة لا تنسى قضيناها في مخيم "صحراء عُمان"، في رمال بدية حيث الانبهار بتفاصيل التفاصيل التي تفاجئنا بها الطبيعة وجمال المكان وتفرده واستثنائيته... في صباح اليوم الثاني مررنا على ولاية "وادي بني خالد"، للتنعم بمشاهد البرك المائية الصافية، والشلالات والجداول وبساتين النخيل وتنوع الطبيعة... وبالرغم من أفواج السياح النشطة المنتمين إلى أعراق ودول وأعمار وثقافات كثيرة، وخطورة الأماكن خصوصا الطريق إلى "كهف مقل"، فإن خدمات الأمن والسياحة شبه معدومة، ولا يوجد أي أثر لمقاهٍ ومطاعم حديثة، باستثناء مطعم واحد وكان مهجورا ومغلقا.