إبراهيم بدوي:
ما بين البداية والنهاية تفاصيل في منتهى الدقة، قد تخلط الحسابات وتحير العقول، فتختلط لدينا الحدود الفاصلة بين البداية والنهاية، ونظل نستعرض ونستعرض حتى تصيبنا الحيرة هل ما كنا نعده نهاية، هو نهاية أم أنه كان البداية؟ لتكون النهاية بداية جديدة أو إرهاصات نهاية أخرى لن تتجلى لدينا دون تفاصيل جديدة. وللتوضيح وفي خضم ما يشهده العالم الآن من حرب روسية أوكرانية بدأت ولا نعرف عند أي حد ستتوقف في شرق أوروبا؟ أم أنها ستمتد في كافة ربوع المعمورة؟ فإذا أردنا حكما دقيقا على تلك الحرب التي نعدها بدأت الآن فسنغرق في تفاصيل كثيرة، قد تصل بنا لتصور أن نهاية الاتحاد السوفيتي، التي رأيناها نهاية لدولة كبرى، هي البداية الحقيقية لما نعيشه الآن، حيث يرى الواقفون في الخندق الروسي بداية لعودة الثنائية المفقودة، فيما يراها أصحاب المصالح المضادة نهاية لعهد من السلام العالمي.
أما نحن المتضررون من تلك الحماقات المرتبطة بأطماع الدول الكبرى في مقدراتنا فنراها امتدادا لما قرأناه في التاريخ القريب والبعيد، عن دائرة متواصلة من الأطماع متلحفة بشعارات وطنية في هذا المعسكر أو ذاك، تقود العالم نحو الجنون، وستستنفد ثرواته بمزاعم كاذبة، سيفرضها المنتصر، وستظل أكاذيب المهزوم في ذات الخانة. فالمنتصرون هم من يكتبون التاريخ، ولعل قراءة متأنية لما حدث فيما نظن أنه بداية للحرب العالمية الثانية، سيقودنا لواقعنا الذي نعيشه، فالتاريخ المكتوب يتحدث عن أطماع هتلر، في دول الجوار، الذي انطلق باجتياح بولندا تحت زعم (حماية الحدود والأقليات الناطقة بالألمانية)، وتواصل تحت صمت أو (خوف) غربي، من المواجهة والاكتفاء بـ(التنديد والاستنكار)، برغم أن ذاك الغرب تعهد لبولندا بالحماية، تلك الرواية كانت ستكتب بطريقة أخرى لو انتصر الألمان والمحور، وستتحول ألفاظ بعض الألفاظ التي تبرز أحقية المنتصر الأخلاقية في تلك الحرب.
لكن في الحقيقة هذا المشهد لم يكن قط هو انطلاق شرارة الحرب العالمية الثانية، لكن البداية الحقيقية، كانت مع نهاية الحرب الأولى، والتي نتج عنها تسويات أدت لقهر المنهزمين فأبرمت معاهدات عقابية أخذت طابع الانتقام ضدهم، مما أوجد ضغينة في النفوس الألمانية، وكانت مفتاح التجييش والتحشيد اللذين اعتمد عليهما هتلر في إعادة هيبة ألمانية مرة أخرى، لتختفي الحدود الفاصلة بين البداية والنهاية، وندور في دائرة من الأطماع والأطماع المتبادلة، والغريب أن في وطننا العربي من لا يزال يحاول أن يقف مع طرف ضد الآخر، وهو أمر أشبه بما روي عن صراع أم كلثوم وأسمهان في الحرب العالمية الثانية.
بغضِّ النظر عن البدايات أو النهايات، لكن الحقيقة الكبرى الجلية أن ما فات وما هو قادم، سواء كان حاضرا أو تاريخا، أو حتى مستقبلا لا بُدَّ أن نعي أنه صراع بين دول كبرى طامعة في سيادة العالم وسرقة مقدراته، وأن شهوة السيادة لديهم هي المدخل الذي يسلكه زعماؤهم لقيادتهم نحو التهلكة، تهلكة يدفعها العالم أجمع. والغريب أيضا أن من المفترض أن ما يميز الإنسان دون سائر المخلوقات هو قدرته على التعلم، والتطور العقلي، لكن يبدو أن الأطماع وشهوة السيادة تلغي هذه الميزة، ونصبح كما أمسينا دون تعلم الدروس، وللتأكيد أنظر للحالة الحالية بتمعن، واستبدل أسماء ومسميات الدول، أو الأشخاص، فستجد زعيما ألمانيا جديدا يتحدث عن حماية حدوده والناطقين بلغته، وستجد بولندا جديدة استمعت لكبار العالم، وستجد أن هؤلاء تخلوا أيضا عنها وتركوها وحدها، حتى تقترب الأخطار منهم فتنشب حرب دموية ندفع نحن ثمنها.
ولا أعلم وقتها من سيكتب التاريخ ليحدد هل كانت الأطماع هي من تحرك روسيا وتدفعها لاتخاذ خياراتها؟ أم أن التاريخ سيكتب بأيدٍ روسية وسيروي ملحمتها في الدفاع عن الشموخ الوطني؟ وكيف أن موسكو حاربت وناضلت من أجل عودة تاريخها، وإبعاد الطامعين عن محيطها الإقليمي، الذين تجرأوا عليها وأدوا إلى انهيار دولتها الكبرى في أوائل تسعينيات القرن المنصرم؟ أم سيكتفي الجميع بما حدث حقنا لدماء الملايين من البشر؟ وسيعلمون أنه عالم للجميع، وعلى كافة الأطراف المتحاربة ومن يدعمهم أن يقرأوا الماضي ليعلموا حجم الكارثة إذا كررنا ما حدث بما نملكه من أدوات.