سامي السيابي:
الحوار هو الشفاء الخالص لكل خلاف، سواء في اختلاف الرأي أو الفكر، أو التوجه، أو الجوانب الاجتماعية أو الأخوية أو الزوجية، أو السياسية أو غيرها، بدونه تتقوض الألفة وتذهب الريح، ويفتق الرتق إلى أوجه، واللحم إلى نأيه، وكم من جماعات فضت، وشمول تباينت، وموازين تأرججت، وصروح تخلخلت، لم يكن لها حض من إسباك، بغياب الحوار رأسا، أو ذاك الحوار المجفف من مهارات خلقية، وإيمان يقيني، ومفاهيم حضارية.. والحوار جسر لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وهو مسرى النور الذي من خلاله يضيء باطن الإنسان ومكنونات فؤاده، ومعرفة مدى ثقافته وذكاءه ومستوى تفكيره، وهو الإقناع والإمتاع والمؤانسة والحياة، فضلا عن كونه وسيلة تربوية فاعلة كما ذكرنا هذا في الحلقة الفارطة.
الاهتمام بالحوار وروحه الأخلاقية هو اهتمام بالمصير، المصير البشري، الدنيوي، الحياتي، والمصير الأخروي، والمصير التربوي، فكل أمر يقوم على الأخلاق والأدب والاحترام يؤدي إلى نتائج إيجابية، ألا يكفي أن القرآن دعا إلى حسن الأدب في القول واللفظ؟،(وقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)(البقرة ـ 83)، (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُإِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا)(الإسراء ـ 53)، (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ)(الحج ـ 24)، وإن كان مع أظلم الظالمين (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ) (طه ـ 44)، وكان النبي خير مثال في الحوار الهادئ الهادف المثمر فقد كان خلقه القرآن المليء بالحوارات الهادئة مع مختلف الناس وتوجهاتهم، ومن ذاك نتذكر أنّ الأدب في الحوار ليس اختيارًا، بل ضرورة حضارية ملحة ورقي وسمو يتحلى به صاحب المبادئ القيمة والتوجه المحمود والعلم الرصين والمرتبة الرفيعة، للحفاظ على رتابة المودة بين الناس مهما تباينت توجهاتهم.
وفي مقابل ذاك قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) محذرًا من مغبة اللسان المسؤول عن خلق الحوار:(إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمَةِ لاَ يَرَى بِهَا بَأْسًا يَهْوِي بِهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا فِي النَّارِ) (رواه أحمد)، وقال محذرًا أحد طلابه وهو معاذ:(أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ، وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمَلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قُلْتُ: بَلَى يَا نَبِيَّ اللهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ) (رواه ابن ماجه والترمذي وأحمد)، ومن ذاك نتذكر أنّ من أدوات اللسان الكثير من الكبائر:(يأكل لحم أخيه ميتا، مشاء بنميم، والكذب يهدي إلى النار، ألا وقول الزور..) بل وصل الأمر إلى إقامة العقوبة الحدّيّة من (قذف المحصنات الغافلات)، فمن ضمن لسانه نجا، قالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: وبدأ بقوله: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ) (رواه البيهقي).
الحوار في اللغة من الرجوع، وهو في الاصطلاح تراجع الكلام بين طرفين وأكثر، ذكر في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع، في قصة أصحاب الجنة:(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا) (الكهف ـ 34)، وفي نفس القصة:(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا) (الكهف ـ 37)، وكذا في سورة المجادلة:(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَاإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(المجادلة ـ 1).
يتفق مع مصطلح (الجدال) في كونهما حديث أو مناقشة بين طرفين فأكثر، بينما يقع الحوار في الحالات المعتادة في التواصل بين المتحدثين، أما الجدال غالبا يقع في الخصومات والعناد والتمسك بالرأي والتعصب له، وقد وردت مادة الجدال في القرآن الكريم في تسعة وعشرين موضعا، أغلبها جاءت بمعنى الخصومة؛ وأربعة منها لم تأت بمعنى الخصومة، بل جاء اثنتان منها مقرونة بالحسنى:(ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(النحل ـ 125)، (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْوَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَاوَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(العنكبوت ـ 46).
وكذا مفهوم (المناظرة) قريب من معنى الحوار، وأصله من النظر، والبصيرة، والحذق، يهدف إلى توخي الصواب، وتفحّص الخطأ، واختيار الأمثل، وعليه فالمناظرة أمرها محمود ما دامت بهذا الهدف، فهي أن تناظر أخاك في أمر لتنظرا فيه كيف تأتيانه، وكيف تظهران الصواب والحق. ويظهر الفرق بين المناظرة والجدال في أنّ المناظرة اشتراك الطرفين في الوصول للحق وإثبات الصواب بروح الهدوء. وفي الجدال يدعي كل طرف الأحقية، مع اصطحاب التشنج والانفعال.
وحتى يكون الحوار حوارًا راقيًا لا بد أن يكون له هدف يستحضر ورسالة يمضى عليها ورؤية تنتظر، فيهدف إلى طلب الحق، سواء لك أو عليك، وقد انتقدت امرأة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يخطب أمام الناس في تحديده المهر، واستشهدت (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًاأَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) (النساء ـ 20)فألغى مرسومه فورا. والرسالة تلتف حول الصدق والأمانة، (قَالَ اللَّهُ هَٰذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ۚ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (المائدة ـ 119)،فيما تكون الرؤية لتحقيق الأمن المعرفي، سواءالأمن الوظيفي أو حفظ المجتمع، ونواته، وافراده، وديمومة رقيه وتحضره وسلمه وتماسك وطنه بتنوعه في عمومه وأقلياته.
وللمحاور المثالي وقفتان قبل الشروع على صرح الحوار؛ هما: أولا النية الخالصة لله عز وجل والغاية رضاه، ومن مفسدات النية والغاية: مروج الناس على حب الحديث لحاجة أو لغير حاجة، وحب الشهرة والسيطرة على المجالس، وإظهار البراعة والثقل الثقافي، وانتزاع الإعجاب، وانتظار الثناء.. وكله رياء محبط للعمل. وثانيا عدم الضرر بالحق، وإن انتابك أثناء الحوار شيء من وساوس الشيطان في إفساد النية أو الفتنة أو العجب، فلا تتوقف .. قاوم ... صرَ على مبدئك.. واستمر في الحوار النقي الراقي.
كاتب عماني