د. رجب بن علي العويسي:
يُمثِّل التخطيط العشوائي قبل عقد من الزمن في ظل ثورة المدن الذكية حول العالم ضربا من الرجعية، وعدم كفاءة أدوات التفكير في المستقبل والحدس به، أو الاستفادة من الإحصائيات والمسوحات ومؤشرات النمو السكاني وكفايتها في التخطيط العمراني، على أن حالة الازدحام المروري والاختناقات الناتجة عن الكثافة السكانية في منطقة المعبيلة الجنوبية بمحافظة مسقط أعطت مؤشرات لهذا النوع من التخطيط الذي لا يتماشى مع النسيج الحياتي للمدن العصرية الذكية، والتنظيم العمراني الذي يستوعب احتياجات الإنسان ويلبِّي متطلباته، ويعترف بحقوقه في الحصول على بيئة إسكانية آمنة سليمة تحقق له جودة الحياة، مستفيدا من كل الفرص المتاحة والتثمير فيها لمزيد من الأمن والاستقرار والعيش الكريم، وإذا كان قاطنو هذه المنطقة يعانون اليوم من تأثير هذا التخطيط العشوائي الوقتي، فكيف يكون الحال بعد عشر سنوات قادمة إذا ما سلمنا بأن أغلب القاطنين في هذه المنطقة اليوم من الشباب أو الأسر البنيوية الصغيرة؟ ليؤكد بما لا يدع مجالا للتأخير وسرد التبريرات إلى الحاجة إلى عمل وطني متقن، ومنهجيات عمل واضحة المعالم، تعيد الإنتاج التخطيطي لهذه المنطقة وفق المعطيات العصرية والاستراتيجية العمرانية ورؤية عُمان 2040.
وعلى الرغم من أن منطقة المعبيلة الجنوبية تُعد من المناطق الناشئة حديثا مقارنة بغيرها من المناطق الأخرى بمحافظة مسقط، حيث شهدت في السنوات العشر الماضية نموا سكانيا سريعا، إلا أن الميزة التنافسية النسبية لم تغفر لها في قدرتها على استيعاب هذا النمو السكاني المطرد والمتسارع الذي صاحبه وللأسف الشديد تراجع كبير في الخدمات الموجهة لهذه المنطقة، وبطء يتجه بها إلى التراكمية والتكرارية، بما يشير إلى قصور دور الأجهزة التنفيذية الحكومية المعنية بهذه المنطقة في التعاطي المهني مع زيادة النمو السكاني، وكان طموح القاطنين في هذه المنطقة أن تكون نموذجا للمدن الذكية؛ كونها تضم مناطق متكاملة إسكانية وتجارية وصناعية والتي تصبح خلالها وجهة للكثير من المواطنين والمقيمين من محافظة مسقط أو المحافظات الأخرى في الحصول على الخدمات التي تقدمها المنطقة الصناعية بالمعبيلة، إضافة إلى اتساع الرقعة الجغرافية للمنطقة وابتعادها عن تأثير مجاري الأودية، ووجودها في خط اتصال يربط محافظة مسقط بمحافظة جنوب الباطنة والمناطق الأخرى بولاية السيب المتاخمة لمحافظة الداخلية والطريق السريع المؤدي لمحافظات الداخلية والشرقية وغيرها.
لقد رسم التخطيط العشوائي معالم هذه المدينة الحديثة التي كان يتأمل قاطنوها أن تكون منطقة جذب إسكاني، تمتلك المقومات التي تعزز من كونها مدينة ذكية حالمة، في ظل ما تحمله من ممكنات وفرص تجعلها قابلة لأن يكون لها حضورها النوعي في مسار بناء المدن الذكية والتخطيط العمراني المتحضر المعبِّر عن طبيعة المرحلة والتحول النوعي في المنظومة الإسكانية والبيئية، فالمباني الكبيرة والبنايات متعددة الطوابق غير المنظمة في مواقعها والمنتشرة بشكل عشوائي، ومع ما وفرته هذه المباني السكنية التجارية من فرص وجود المحلات التجارية، إلا أن الأخيرة هي أيضا تتسم بالتبعثر والتشتت والانتشار العشوائي لها، ذلك أن ثقافة تنظيم توزيع المراكز التجارية والبنايات التجارية السكنية غير موجودة في تخطيط هذه المنطقة، ناهيك عن عدم تهيئة المواقف المناسبة لها، أو دراسة مواقعها مما نتج عنه تركزها في مناطق بعَيْنها، وتداخل الأحياء التجارية مع الأحياء السكنية، لتجد بيوت السكان القاطنين بها بين البنايات متعددة الطوابق، بالإضافة إلى صعوبة وجود مساحات لمواقف مركبات القاطنين في هذه البنايات، أو إلزام الجهات المعنية شرط إيجاد طوابق تحت سطح الأرض (بيسمنت) لوقوف المركبات، لتجثم مركبات المواطنين والمقيمين من سكان هذه البنايات على جانبي الطرق الداخلية لتشكل ازدحاما مروريا مستديما دون مراعاة لخصوصية الأسر والعوائل القاطنة في المناطق السكنية، وما ترتب على هذا التداخل من تأثر القاطنين في المناطق السكنية القريبة من هذه البنايات التجارية السكنية بحركة التسوق من هذه المحلات التجارية، هذا الأمر يأخذ في الاعتبار أيضا التخطيط الإسكاني للأحياء السكنية وما فيه من تحديات وأخطاء وتجاوزات وقلة المداخل والمخارج من وإلى الأحياء السكنية وربطها بالشوارع الرئيسية، وما نتج عن أزمة التخطيط للأحياء التجارية وتركزها في مناطق إسكانية محددة دون غيرها وافتقار المنطقة المحاذية لطريق مسقط السريع للخدمات التجارية من زيادة المسافة التي يقضيها سكان المنطقة في تسوقهم وحصولهم على مستلزماته اليومية، وغيرها كثير مما لا يسع المجال لذكره.
من هنا تأتي أهمية إعادة النظر في مسار التخطيط العشوائي الذي بنيت عليه منطقة المعبيلة الجنوبية، نظرا لافتقاره لمقوِّمات التطوير الحضري الشامل، وإغفاله منحى الابتكارية في التخطيط وفق منهجيات تطوير مستدام، معززة بشبكات الطرق وخطوط المواصلات، وتوفير البنية الأساسية وترقيتها، وتوفير المرافق والخدمات العامة وكفايتها وتلبيتها لاحتياجات سكان المنطقة، في ظل الاتجاه نحو الاعتماد على التقنيات الحديثة والتوسع في الخدمات الإلكترونية والتطبيقات الرقمية، وتوفير المتنزهات والحدائق العامة، وإضافة الطابع الجمالي للمدينة من خلال عمليات التشجير والتنظيم، وإدارة الأسواق وتنظيم بيئات التسوق، وإدارة شبكات الطرق من خلال استبدال الدورات والتقاطعات بالإشارات الضوئية وتنفيذ الأنفاق والجسور العلوية للمركبات وجسور المشاة، وفتح المزيد من المداخل والمخارج، والطرق البديلة والمختصرات، وزيادة حارات الشوارع الرئيسية التي تربط منطقة المعبيلة بشارع مسقط السريع وشارع السلطان قابوس، بما يضمن انسيابية الحركة المرورية والتقليل من الازدحام والكثافة على الطرقات وتقليل مدة الحركة الزمنية في الشوارع، بالشكل الذي يضمن مواكبتها مع النمو السكاني والصناعي والتجاري الحاصل، بالإضافة إلى إعادة هيكلة المنطقة الصناعية بالمعبيلة بالشكل الذي يضمن إدارتها ذاتيا، وتوفير كل المؤسسات المعنية بالتشغيل والقوى العاملة ومكاتب العمل، وإدارة المنطقة الصناعية، والأمن والسلامة والدفاع المدني لتكون جميعها ضمن حوزة المنطقة الصناعية، بالإضافة إلى توفير الجهات الخدمية الضرورية الحكومية والخاصة المعنية، والعمل على تعزيز مفهوم التخطيط الذكي القائم على وجود مركز للمدينة ومناطق سكنية وتجارية وصناعية مستفيدة من استراتيجية التخطيط العمراني لتقديم صورة جمالية ذوقية قادرة على تحقيق طموحان السكان وتقريب الصورة الذهنية الإيجابية لديهم حول المنطقة مستقبلا.
وإذا كانت الممارسات التخطيطية المنفذة في رسم خريطة منطقة المعبيلة الجنوبية، لم تفلح في جعلها مدينة ذكية توظف الفضاء الإلكتروني في بناء نموذج حضري ريادي معزز للاستدامة والتنافسية ويستجيب لتوقعات السكان القاطنين بها، في ظل ما شهدته مدن العالم وعواصمه من تحوُّلات جذرية في بنيتها المعرفية والسكانية واللوجستية والخدمية، الأمر الذي استدعى تحوُّلات في إدارة نمط هذه المدن على المدى البعيد، ومراجعة للسياسات والخطط وآليات العمل المنفذة، فإن ثقتنا في التوجُّهات الجديدة للحكومة في اعتماد معايير الحوكمة والتنافسية واللامركزية وتوظيف الفرص وتعظيم الاستثمار في توجيه الأنظار إلى منطقة المعبيلة الجنوبية وعبر مراجعات تخطيطية وتنظيمية ترسم خريطة المستقبل في شكل المدينة وهياكلها الإدارية والتنظيمية كمًّا وكيفًا، وإعادة تنظيم البنى الأساسية والخدمات اللوجستية، وتبنِّي رؤى ومبادرات مستدامة لجميع القطاعات الحيوية كشبكات الطرق والنقل ومعالجة النفايات وشبكات مياه الصرف الصحي وتنظيم شبكات الاتصال والمياه والكهرباء والهندسة المعمارية للمباني والمساكن، وتخطيط المنطقة في المجالات الحيوية الصناعية والتجارية والتعليمية والطبية والرياضية، والتفكير في إيجاد فضاءات ترويحية وثقافية وفكرية، وبيئات حيوية مستدامة للاستجمام ومتنزهات وحدائق قادرة على استقطاب السكان ويشعر فيها الجميع بالأُلفة والأمان، وتتكيف مع منظومة المبادئ والهُوية العُمانية في سلوك المواطن وثقافته بشكل يجعل من وجودها بيئة ذكية تفاعلية، الطريق نحو بناء منظومة متكاملة من البيانات والإحصاءات والرصد والتحليل وجعلها جاهزة للاستخدام الذكي، الأمر الذي من شأنه أن يقلل من الازدحام المروري والتأثيرات السلبية الناتجة عنه، ويعزز من تبنِّي بدائل صديقة للبيئة تحدُّ من الاستهلاك البيئي الناتج عن مخلفات المنطقة الصناعية.
أخيرا، هل ستدوِّي الاستغاثات المستمرة، والمطالبات المتكررة من المواطنين سكان هذه المنطقة عبر المنصَّات التواصلية والقنوات الإعلامية، في سمع المسؤول الحكومي لتعيد هذا الملف إلى مقدمة أجندة العمل الحكومية لتبنِّي بدائل وحلول عملية في تصحيح مجريات الواقع؟ وهل سيكون مفهوم المدن الذكية التي تحدث عنها العالم منذ أكثر من عقدين مع بدء ظاهرة الازدحام المروري تغزو المدن الكبرى لتجد طريقها في التعاطي مع مخططات منطقة المعبيلة الحديثة الإسكانية والتجارية والصناعية؟ إننا على ثقة بأن رسم صورة ذهنية حالمة متفاعلة لسكان منطقة المعبيلة الجنوبية حول واقعهم ومعاناتهم وطموحاتهم نحو حصول هذه المنطقة الواعدة لاستحقاقات التحوُّل الذكي في البنية الأساسية والخدمية التخطيطية والتنظيمية والتسويقية، مرهون بوجود الإرادة المؤسسية نحو التغيير، وكفاءة الجهد المبذول ومصداقيته في الاستفادة من كل الفرص الداعمة، وتوظيف المسوحات والرصد الميداني للنمو السكاني الذي تبنى عليه مسارات التطوير القادمة، فإن الإبقاء على هذا الحال سوف يؤدي إلى نتائج كارثية في السنوات القليلة القادمة تتجاوز مسألة الازدحام المروري في الطرقات إلى البحث عن الأمان النفسي والخصوصية الاجتماعية في المنازل السكنية في ظل هذه العشوائية التخطيطية التي بات يدفع ضريبتها سكان المنطقة. إن تحقيق ذلك بحاجة إلى المزيد من المهنية التخطيطية والكثير من الاحترافية التنظيمية، وإضافة نكهات التغيير ذي القيمة المضافة العالية التوقعات، والجدية المصحوبة بكفاءة القرار التطويري، ورصد الموارد في توفير المتطلبات الأساسية للسكان، والتعاطي مع هذه التوجُّهات التطويرية في قادم الوقت بروح مرنة واستشعار بحجم المسؤولية واستنطاق التحوُّل الإسكاني الذكي في هذه المنطقة الواعدة.