د. رجب بن علي العويسي:
في مرحلة وطنية نعايش فيها الكثير من التحوُّلات في النسق الاقتصادي الوطني، بدأت مع إقرار تنفيذ رؤية "عُمان 2040" مع بدء عام 2021م، والتوجُّهات الاقتصادية التي عملت السلطنة على تحقيقها لبناء عُمان المستقبل، وإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني بالشكل الذي يضمن تحقيق الاستدامة المالية والتنويع الاقتصادي وخفض المديونية والعجز، وما أثمرت عنها الرؤى والتوجُّهات والقرارات الوطنية في ظل اقتصاد مبدأ الأزمات من نواتج إيجابية ومؤشرات انعكست على قدرة السلطنة على تحقيق مستويات جيدة وإيجابية في التصنيفات الائتمانية، لتكرس هذه الجهود بنواتج على الأرض بدأت بافتتاح مشروع حقل جبال خف لإنتاج الغاز ويصنف ضمن المشاريع العملاقة في المنطقة، ثم افتتاح مجمع لوى للصناعات البلاستيكية التابع لمجموعة "أوكيو" في منطقة ميناء صحار الصناعي، واليوم تشهد السلطنة أكبر تظاهرة اقتصادية في الشرق الأوسط بالإعلان عن الافتتاح الرسمي لميناء الدقم بحضور جلالة الملك فيليب ليوبولد لويس ماري ملك البلجيكيين وقرينته جلالة الملكة ماتيلد ماري كريستين غيسلاين ملكة البلجيكيين، والذي يُعد من أهم وأكبر الموانئ الاستراتيجية التجارية واللوجستية على خطوط التجارة العالمية في المنطقة الاقتصادية بالدقم، وهو بموقعه الفريد الذي يتميز به في خط التجارة العالمية واتصاله بموانئ العالم المختلفة يُمثِّل أكبر وجهة اقتصادية عالمية في الشرق الأوسط، ويضع السلطنة أمام استثمارات اقتصادية كبرى ستنعكس إيجابا على تحقيق أولويات السلطنة في التنويع الاقتصادي، في ظل حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة.
ومن منطلق ما يمثله الترويج الاقتصادي الإعلامي من أهمية كبرى في معادلة إنتاج القوة الاقتصادية والتعريف بالفرص والمميزات التنافسية للسلطنة عامة وميناء الدقم بشكل خاص، تـأتي أهمية أن يرافق هذا الجهد الوطني على الأرض جهد إعلامي منظم ومؤطر ليقدم صورة مكبرة للواقع، ويسلط الضوء على الفرص الاستثمارية والبدائل والامتيازات والحوافز التي تقدمها حكومة السلطنة في تعزيز الاستثمار بما يتناغم مع هُوية السلطنة، ويحقق أولويات رؤية "عُمان 2040"، فإن أيَّ حديث عن الاستثمارات الاقتصادية والاستثمار في الاقتصادات الواعدة يأتي متلازما مع دور الإعلام والسياسات الإعلامية والمساحة التي تمنح لاقتصاد الإعلام، وأهميته الكبرى في إعادة إنتاج هذا الجهد الاقتصادي الوطني وتسويقه وترويجه والتعريف به، والوصول إلى سمعة عالية الموثوقية تضع العالم يتجه عن قناعة ورغبة وحرص وإدراك بالميزة التنافسية الاقتصادية للسلطنة، هذا الأمر يأتي في ظل القناعة بأن تحقيق أولويات رؤية "عُمان 2040" في شقها الاقتصادي بحاجة إلى مسار إعلامي متجدد، وقادر على استيعاب كل التفاصيل المتسارعة في تنفيذ أعمال الرؤية، ويمتلك من الممكنات الإعلامية التي تستوعب كل الممارسات والمبادرات المعززة لمنهجيات العمل، والمواقف المشهودة وتقف على أفضل الممارسات الفردية والمجتمعية الداعمة للرؤية؛ كونها أحد الممكنات والنماذج التي تصنع للرؤية حضورها في حياة المواطن، كما أن وجود الإعلام النشط والفاعل في رصد واستقراء وتحليل نواتج الرؤية سوف يتيح للمواطن استيعاب مستجداتها وبرامجها من خلال جملة التفاصيل اليومية التي يمارسها في حياته، أو يتعاطى معها في ممارساته، لتسري في تفاصيل الممارسة الحياتية والمهنية والاجتماعية والاقتصادية للمواطن والمؤسسات على حدٍّ سواء؛ لما لهذه التفاصيل من أهمية في رسم المسار، وتحديد بوصلة التوجُّه، وترقية الروح الوطنية العالية وحفزها للإنجاز.
على أن التعاطي الإعلامي الخجول مع مستجدات مشروع ميناء الدقم وغيره من المشاريع الاقتصادية العملاقة التي باتت مصدر فخر للمواطن العُماني، وحالة الاستحياء التي لم تصل لحدِّ التوقعات في الترويج لهذه المنطقة الاقتصادية الواعدة، ذلك أن حجم الموارد التي تضخها الدولة في هذه المنطقة الاقتصادية بغية جاهزيتها، من حيث البنية الأساسية والخدمات والمرافق وإنشاء الطرق والمطار والحوض الجاف وخدمات الاتصالات والكهرباء والمياه وغيرها لضمان التهيئة المناسبة للاستثمارات ووصولها إلى درجة عالية من الأمان الاقتصادي والتكامل في الخدمات المساندة، بحاجة إلى مسار إعلامي متكامل وفاعل وقادر على تشخيص السلوك الاقتصادي في منطقة الدقم الاقتصادية أو غيرها من المناطق الاقتصادية الأخرى بالسلطنة، ويؤكد في الوقت نفسه على أهمية إعادة هندسة المسار الإعلامي داخليا، ورسم استحقاقات المرحلة كمدخل استراتيجي في تغيير الخطة الإعلامية، وعبر التفكير في إيجاد منصَّات إعلامية أكثر واوسع، وبيئة إعلامية حاضنة للإعلام التحليلي والاقتصادي المحاور، للوصول إلى نموذج إعلامي بديل يتناغم مع متطلبات المرحلة ويتوافق مع أولوياتها، وهي بذلك بحاجة إلى مسار إعلامي مختلف يعبِّر عن الرؤية ويجسد برامجها ومشاريعها الاقتصادية، ويرفع من مستوى طموحاتها، وأن يتجه الإعلام الوطني إلى سبر أعماق البناء الفكري الاقتصادي في محتواه عامة وفي سلوك وثقافة الإعلامي خاصة، والتي لم تَعُدْ ترفا فكريا أو حالة مزاجية، بل أولوية يجب أن يصنع لها الإعلام محطات تسويقية وترويجية تدعم فرص النجاح، وتعبِّر عما تستحقه هذه المنطقة الاقتصادية وعُمان عامة من ترويج للفرص التنافسية بها والتعريف ببيئاتها، في ظل شراسة المنافسة التي يعيشها مع الإعلام الداخلي غير الرسمي ممثلا في المنصَّات التواصلية والفضاءات المفتوحة أو مع الإعلام الخارجي المتخصص في الشأن الاقتصادي، على أن الاكتفاء ببرنامج واحد أو ببرنامج غير مباشرين لا يحقق مفهوم الترويج الاقتصادي المحترف، الذي يجب أن يمارسه الإعلام الوطني في ظل التوسع في قنواته وبرامجه ونماذجه وتجاربه، ويبقى الحديث عن برنامج اقتصادي متكامل يتحدث عن مفهوم الاستثمار والفرص الاستثمارية والمساحة المتاحة للمستثمرين، والإجراءات والضوابط والقيود، وجهود تبسيط الإجراءات وواقعيتها، ونماذج عملية لها، والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة واستقطاب الكثير من الفرص الشبابية الناجحة، أو التحديات والعقبات التي تواجه المستثمرين في السلطنة، وعن الحوافز الحكومية المقدمة، ومستوى الاستفادة منها، وتشجيع المجتمع على الفرص الاستثمارية، ومنطقة الدقم الاقتصادية ذاتها والمناطق الاقتصادية الأخرى في السلطنة، وعبر برامج حوارية متخصصة متفاعلة تستقطب خبراء الاقتصاد في العالم، وفق منهجيات واضحة ومسارات معلومة ودورة برامجية متكاملة تتسم بالاستدامة والتنوع والمهنية والعمق والتحليل واستقراء المواقف وتحليل العيِّنات وفهم مجريات سوق العمل الوطني، وتسليط الضوء على المفاهيم الاقتصادية والمقوِّمات البيئية والاقتصادية واللوجستية لمنطقة الدقم وغيرها، وتوفير قواعد بيانات وطنية بالخبرات الاقتصادية الوطنية، إعلام اقتصادي فاعل يتناول العمق الاقتصادي في منطقة الدقم والاستثمارات الحالية ونواتجها وتفاصيل دقيقة تبرز هذا التحول الحاصل في المنظومة الاقتصادية، برامج حوارية تحليلية تحرك المياه الراكدة وتدفع إلى الاستثمار، وتجيب عن التساؤلات الاقتصادية التي ما زال المستثمر الخارجي والداخلي يبحثان عنها، بيد أن الإجابة عنها ما زالت غير مكتملة والمعلومات غير دقيقة.
على أن الطموح نحو تجسيد الإعلام الاقتصادي في السياسة الإعلامية الوطنية أكبر من مجرد إضافة قناة إذاعية أو تلفزيونية، أو صحف يومية إلكترونية وورقية؛ بل فضاء إعلامي تتجلى فيه المبادئ الوطنية والتوجُّهات العُمانية ومنهجيات الحوار ومصداقية الكلمة وروح الخطاب، وتفتح للمواطن والشباب فيه فرصا أكبر للتعبير عن طموحاته الاقتصادية وتوقعاته في بلد يتجه إلى إعادة هيكلة اقتصاده مستفيدا من الميزة التنافسية، وعبر توظيف الفنون الإعلامية والمنصَّات التواصلية لتعبر بمهنية وشفافية ومصداقية عن غايات رؤية عُمان وأولوياتها الاقتصادية، أي بمعنى آخر أنه طالما أن اتجاه السلطنة وجدت في منطقة الدقم الاقتصادية وجهتها نحو العالم، ومركز للتجارة الدولية فإن تعميق هذا الشعور لدى المواطن العُماني والعالمي، وتمكين المواطن من أن يمارس دوره التسويقي في التعبير عن هذا الجزء من وطني بحاجة إلى يمارس الإعلام الوطني دورا محوريا لخلق صورة تفاعلية إيجابية متكاملة تقرأ في هذه المنطقة مساحة قوة ونهضة تحوُّل قادمة، فإن الخطوة الاستراتيجية لبلوغ هذا الهدف وتحقيق تحوُّل نوعي في المسار الإعلامي وربط الإعلام والمحتوى الإعلامي بالواقع الوطني يرتبط بإيجاد مسار إعلامي واضح ومتكامل يتناغم مع عملية تنفيذ رؤية "عُمان 2040"، إذا ما علمنا أن الإعلام اليوم أهم محطات الترويج القادرة على إعادة هيكلة الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وامتلاك فرص التأثير في فكر الناس وقناعاتهم، وتوجيه الأنظار لدى القادة والسياسيين والاقتصاديين ورجال الأعمال وغيرهم حول المناطق الاقتصادية الكبرى حول العالم، بما يؤكد أن على السياسة الإعلامية الوطنية تقديم محتوى اقتصادي إعلامي يتسم بالعمق والتنوع والاستدامة، ومزيد من الشراكات مع الشبكات الإعلامية العالمية المتزنة والأخلاقية في طرحها المعتدل.
أخيرا، يبقى التأكيد على أهمية بناء إعلام الرؤية من جديد، وتمكين الإعلام الاقتصادي ليمارس دورا احترافيا أكثر شفافية وعمقا في سبر الواقع الاقتصادي للسلطنة، ويعبِّر عن حجم المشاريع العملاقة التي اتجهت إليها السلطنة والتي يشكِّل الافتتاح الرسمي لميناء الدقم باكورة تحقيقها، محطة تحول تستشرف آفاق أوسع في الإعلام الاقتصادي وتعميق دوره القادم في السياسة الإعلامية الوطنية، ويؤكد على أهمية إعادة إنتاج إعلام اقتصاد الرؤية من جديد، فإن المرحلة المقبلة تتطلب المزيد من الجهد الإعلامي الاقتصادي المنظم القائم على وضوح المسار، واتساع الشراكات الإعلامية، وتعزيز حضور الخبرة المجتمعية، ودور الشباب في الإعلام الاقتصادي في ظل الفرص والممكنات التقنية والتسويقية التي يمتلكها، فهل ستتجه المرحلة المقبلة إلى التفكير في الإعلام الاقتصادي لرؤية "عُمان 2040" ومنحه مساحة أكبر في المكوِّن الإعلام الوطني المقروء والمسموع والمرئي؟ وهل سنشهد حضورا أوسع للشباب العُماني الواعد والمتخصص في التسويق والترويج ليمارس دورا استثنائيا داعما لإعلامنا الاقتصادي؟