د. أحمد مصطفى أحمد:
لعل قطاع التكنولوجيا هو أكثر قطاعات النشاط البشري تطورا في العقود الأخيرة، وما زالت آفاق النمو والتطور فيه هي الأوسع من بين قطاعات الاقتصاد العالمي. وكلما زادت وتيرة التطور زاد معها اعتماد البشر على التكنولوجيا في مختلف جوانب حياتهم. وكل ذلك مهم وإيجابي في سعي الإنسان لإعمار الأرض بطرق أسهل والسيطرة الأفضل على مقدرات معيشته. وشيئا فشيئا تتحول جوانب كثيرة من حياتنا إلى مجرد معلومات وبيانات مخزنة على رقائق حاسوبية (كمبيوترية) أو في خوادم كبيرة تحتكرها شركات معدودة. ومع زيادة حجم تلك البيانات والمعلومات، رغم أنها في الأخير مجرد أسطر برامجية من حروف وأرقام بلوغاريتمات معقدة، طورت التكنولوجيا طرق تخزين جديدة. وأصبح مجال "الحوسبة السحابية" الآن الأسرع توسعا في تخزين البيانات والمعلومات وإجراء العمليات الحاسوبية (الكمبيوترية).
يشهد قطاع الحوسبة السحابية عمليات اندماج بين الشركات الرئيسية، وتشتري الشركات الكبرى مثل مايكروسوفت وأمازون الشركات الأصغر العاملة في هذا المجال ليتركز القطاع في يد مجموعة من شركات التكنولوجيا العملاقة. وبغضِّ النظر عن أن افتقاد المنافسة يعطي الشركات الكبرى قوة في السوق تمكنها من رفع الأسعار للمستهلك النهائي، فإن مشكلة الحوسبة السحابية أنها تعتمد بشكل أساسي على الإنترنت فائق السرعة، وتلك مخاطرة كبيرة جدا. ففي الماضي كانت الخوادم ذات الوجود المادي مرتبطة بأجهزة الحاسوب عبر كابلات توصيل. وحتى قبل ذلك كان المستخدم النهائي يحتفظ بنسخة ورقية لمعلوماته وبياناته كبديل مادي في حال تعطل الأجهزة فلا تتعطل الأعمال. أما الآن، فقد أصبح كل ذلك معتمدا تماما على توفر إنترنت فائق السرعة. ناهيك عن أن الاحتفاظ بنسخة مادية من المعلومات والبيانات (ورقية أو على أقراص صلبة بديلة) لم يعد يحدث مع كثير من الأعمال أو حتى في الاستخدام الشخصي للأفراد.
لا يمكن إنكار أن هذا التطور التكنولوجي يسهم في زيادة حجم وسرعة إنجاز المهام والأعمال ويوفر مساحات هائلة كانت تستخدم في "التخزين المادي" للبيانات والمعلومات. لكن لكل شيء أعراض جانبية، وما للحوسبة السحابية من احتمالات جانبية يمثل خطرا هائلا بحجم الإنجاز الذي تحققه وربما يزيد. وإذا كان البعض يتحدث أحيانا عن افتراض "عالم بلا إنترنت"، من باب التخيل والتفكير الأدبي والفلسفي فإن ذلك الافتراض وارد أيضا بشكل عملي مثير. فهؤلاء يتصورون أن عالما بلا إنترنت سيعني تخلي الناس كرها عن مواقع التواصل وتلك السلوكيات التي صاحبت انتشار الهواتف الذكية المتصلة ببعضها عبر الإنترنت الهوائي. وسيعيد هذا الوضع الناس إلى ممارسات سابقة تتضمن التواصل الإنساني المباشر والحقيقي وليس "الافتراضي" الذي يرون أنه أتى على شكل العلاقات الاجتماعية وغير كثيرا من القِيَم والأخلاق.
لكن الأمر لا يقتصر فقط على هذه الاحتمالات الاجتماعية والمشاعرية، إنما يتعداه لاحتمالات اقتصادية بالغة الأهمية. على سبيل المثال، شهدت بعض مناطق العالم في فترات ماضية أعطالا في الكابلات البحرية التي تصلها بالشبكة العنكبوتية العالمية، وعندها تعطلت أغلب الأعمال والنشاطات الاقتصادية والبشرية عموما المعتمدة على الاتصال بالشبكة الدولية. لكن تلك الأعطال كان يتم إصلاحها خلال ساعات، وعلى الأكثر أيام قليلة. كما أنه في النهاية تتوفر "وصلات" مادية بديلة وإن كانت أقل سعة لضمان استمرار عمليات حيوية مثل تنظيم الملاحة الجوية والبحرية وضمان عمل شبكات الطاقة وغيرها من النشاطات الحيوية المهمة جدا. ففي النهاية يمكن إعادة وصل الكابلات أو الأسلاك عموما مهما تطلب ذلك.
أما الآن، ومع الإنترنت الهوائي فائق السرعة (واي فاي) فهناك عوامل كثيرة خارج نطاق أيدينا. صحيح أنه مع كل تطور تكنولوجي تؤخذ في الاعتبار مختلف الاحتمالات لضمان الاستمرارية وكفاءة الأداء، لكن كلما كانت هناك عوامل غير مجربة وخارجة عن سيطرة البشر، زادت المخاطر. حتى الآن، ما زال الإنترنت فائق السرعة في أغلبه عبر كابلات ضوئية، وحتى الهوائي منه يبث من نقط بث موصولة بكابلات وأسلاك. والقليل الآن هو ما يتم بثه عبر أقمار صناعية تدور في الفضاء وتبث إشاراتها إلى الأرض. لكن هذه الطريقة الأخيرة تتطور بسرعة وتأخذ حيزا أكبر. وهناك مشروع للملياردير الأميركي المغامر إيلون ماسك لإطلاق كمية كبيرة من الأقمار الصناعية في الفضاء لبث الإنترنت الهوائي (واي فاي) للأرض وبدأت شركته بالفعل تتلقى طلبات الاشتراك فيها من مستخدمين في الولايات المتحدة. وأطلقت عشرات الأقمار بالفعل ويجري العمل على إطلاق مئات من الأقمار لتغطية الكرة الأرضية كلها.
وسيكون التقاط الإنترنت الهوائي أشبه لما حدث مع البث التلفزيوني الفضائي قبل سنوات ليست كثيرة، لتمتلئ أسطح المباني بأطباق لاقطة لإشارة الأقمار الصناعية مع جهاز استقبل في البيت يلتقط إشارة الإنترنت ويبثها لأجهزة الاستخدام المنزلية أو في الشركات والأعمال. وهنا تزيد مخاطر الأعطال وبالتالي توقف الأعمال والمصالح، بالضبط كما كان يحدث حين تزيد الرياح مثلا أو حرارة الشمس فتؤثر على إشارة البث التلفزيوني الفضائي. هذا بالإضافة إلى زيادة مخاطر خروج الأقمار الصناعية عن مسارها أو ضياعها في الفضاء نتيجة عوامل بيئية تتغير بسرعة بسبب نشاط البشر على الأرض. ولأنه لم يعد ممكنا تصور أن يحيا البشر الآن بلا إنترنت، فمع زيادة الاعتماد على الإنترنت فائق السرعة والفضائي الجديد منه بخاصة تزيد مخاطر تعطل كثير من جوانب النشاط البشري.