د. سعدون بن حسين الحمداني:إن الذوق الرفيع للمغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد "طيَّب الله ثراه" يحتاج ليس مجلدًا واحدًا فقط، بل لمجلدات لبيان وشرح فن الدبلوماسية الراقي لباني نهضة السلطنة الحبيبة منذ سبعينيات القرن الماضي، إنه مدرسة بكل معاني الكلمة، فهو ابن سلاطين ومن أصائل القبائل العربية المعروفة عبر التاريخ، بالإضافة إلى أنه خريج أكاديمية ساندهيرست العسكرية الملكية في بريطانيا في ستينيات القرن الماضي، حيث كان من المتميزين والحريصين على تعلم كل شيء جديد من المدرسة الإنجليزية وليس فنون وإدارة الحرب فقط، وهو من هواة القراءة والمطالعة بشكل مستمر لجميع العلوم؛ لأنه كان يَعدها روح الحياة.المغفور له بإذن الله تعالى كان وسيبقى سلطان القلوب، وضع اللبنة الأساسية للمدرسة الدبلوماسية القابوسية خلال الخمسين سنة الماضية في كل تفاصيل البروتوكول والإتيكيت، وإنني سميتها المدرسة القابوسية نسبة له، ولتكون مرجعا رصينا للمتخصصين في فن البروتوكول والإتيكيت.مقال اليوم نتطرق فيه بصورة عامة وبالتحليل استنادا لمفاهيم البروتوكول والإتيكيت على ما تم عرضه على شاشات التلفاز بخصوص مراسم استقبال كبار الشخصيات والألوان التي كان يرتديها ـ رحمه الله ـ، وكذلك الزي الرسمي العُماني في الأنشطة الرسمية داخل وخارج السلطنة، ويمكن تقسيمها إلى مرحلتين؛ المرحلة الأولى منذ تولِّيه السلطة منذ سبعينيات القرن الماضي ولغاية فترة التسعينيات، ثم تبدأ المرحلة الجديدة منذ تسعينيات القرن الماضي إلى وفاته ـ رحمه الله. في الزيارات الخارجية الرسمية كان يرتدي العمامة البيضاء في أول يوم وصوله ليدلل على صفاء القلب والمحبة والسلام والنية الصادقة للزيارة، وبعدها تبدأ العمامة الرسمية ذات الخامة البيضاء بنقاشات مختلفة الألوان الرسمية، وحسب وقت الفعالية إن كانت نهارية أو ليلية، وكان يشدد ويدقق على جميع مرافقيه ويعطي تعليماته إلى دائرة المراسم بخصوص ملابس بقية أعضاء الوفد؛ حرصًا منه على كمالية الظهور بالنسبة للدشداشة أو البشت. أما في داخل السلطنة فكان يرتدي جميع الألوان التي يحبها في المخيمات الخارجية وحتى في القصور؛ لأنها وقت الراحة والاسترخاء لجلالته، ولكن حين يلتقي بشيوخ القبائل فيرجع إلى لبس الزي الرسمي وهو الدشداشة البيضاء ومشتقاتها، وكذلك المصر ذو الخام الأبيض بمختلف النقوش، ويحرص كل الحرص على أن يظهر جميع فريق الحماية ومن معه بنفس اللون وكأنه زي عسكري موحد وإن كان مدنيا، وهذه قمة في فن الإتيكيت لكبار الشخصيات. وفي الدعوات الرسمية الليلية في القصر بمختلف المناسبات، فقد أعطى الدرس البالغ في الأهمية بلبس الدشداشة الداكنة سواء باللون الأزرق أو مشتقاته مع المصر ليكون رمزًا للاحتفالات الرسمية الليلية داخل المكان وليس خارجه. أما في أوقات الصباح وأثناء زيارته التفقدية دائمًا ما نلاحظه في أداء مراسم صلاة العيد فكان قمة في الأناقة البيضاء من حيث الدشداشة والمصر والعصا مع جميع أفراد الحماية والمرافقين؛ لكون المغفور له بإذن الله يدقق في كل مفردات القصر وما يحتويه من أفراد على مختلف المستويات وخصوصًا المرافقين. أما في جولاته الأوروبية فكان يميل إلى اللباس المدني (البدلة باللون الفضي أو الأزرق الداكن) لكون اللون الرسمي الذي توصي فيه أغلب المدارس الدبلوماسية المتخصصة في فن وذوق الألوان والملابس، كان ـ رحمه الله ـ حريصًا كل الحرص على الظهور بأعلى درجات الأناقة والترتيب للجميع، حيث كان يرسل ضيافة القصر إلى دورات خارجية في جميع الاختصاصات للتعلم على فنون الإتيكيت، وخصوصًا ما يمس إدارة المراسم، فنون الضيافة، لغة الجسد والألوان بما يعكس النهضة الجديدة للسلطنة وهُويتها الحديثة المتطورة مع أحدث ما هو موجود بالنسبة لمفاهيم البروتوكول والإتيكيت.أما بخصوص مراسم الاستقبال لكبار الشخصيات فكان المغفور له بإذن الله جلالة السلطان قابوس ـ طيَّب الله ثراه ـ هو في مقدمة المستقبلين؛ إذ كان الضيف في نفس المستوى وخلال العشر سنوات الماضية كان الضيف يستقبل من المطار من ينوب عن جلالته باستقبال رسمي كبير يليق بالضيف، سواء كان رئيس جمهورية أو بنفس الدرجة ثم ينتقل في موكب رسمي مهيب إلى مكان الاستقبال الرسمي قرب بوابة القصر عند قصر العلم العامر، حيث يبدأ الاستقبال الرسمي المهيب عن طريق كوكبة من الخيالة من بوابة الاستقبال وصولًا إلى القار الأحمر، وهذه دلالة كبيرة على حسن التنظيم الراقي والسيطرة على مفردات البروتوكول لكبار الشخصيات. بدأ كثير من الدول تتناغم مع بروتوكول وتنسيق السلطنة الرائع، والذي يدل على كرم الضيافة العربية الأصيلة والتي جسدها جلالته ـ رحمه الله ـ عندما يرفع علم دولة الضيف على قصر العلم العامر ليتحول المكان إلى قصر للضيف نفسه تكريمًا لزيارته، وهذا لم يحدث كثيرًا في الدول، وهو من أهم سمات جلالته في تكريم الضيف، حيث تحولت هذه البقعة من عُمانية خالصة إلى دولة الضيف تكريمًا واحتفاءً به، حتى أن أفراد الحماية وبقية الكادر العُماني في الضيافة يستأذنون من مرافقي الضيف في حالة دخولهم لنفس المكان احترامًا وتقديرًا منهم لمكانة الضيف.إن الخمسين سنة الماضية كانت دروسًا مستنبطة نقشها المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس "طيَّب الله ثراه" بكل مفرداتها بكل دقة وحرفية، معتمدًا على أحدث المدارس الدبلوماسية، وخصوصًا الغربية منها التي تهتم بفنون البروتوكول والإتيكيت تحت إطار الموروث العُماني الأصيل لتخرج المدرسة القابوسية بأحلى ما يكون من مظاهر ومفاهيم وقِيم يُشار لها بالبنان. ومما نلاحظه أيضًا أن والدنا جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم "حفظه الله ورعاه" حريص كل الحرص على المحافظة وتطوير هذه المدرسة بثوب أنيق ومتجدد؛ ليحافظ بذلك على الهُوية العُمانية الأصيلة بتاريخها العريق ضمن النظريات والمفاهيم الحديثة المعاصرة.