د. رجب بن علي العويسي:
حدد الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم في الثالث والعشرين من فبراير من عام 2020 مسار بناء عُمان المستقبل، ووضع تطوير الإدارة المحك الفعلي الذي تدور حوله كفاءة العمليات المؤسسية الداخلية والخارجية، ومنظومة الاقتصاد، واللامركزية، والإدارة المحلية للمحافظات في تطوير ذاتها والاستثمار في مواردها، وتعزيز منظومة الحوافز والصلاحيات والحماية الاجتماعية، انطلاقا من الموقع الذي تصنعه الإدارة في حياة المجتمعات، وبناء هياكل الدول، وتكامل سلطاتها، وصون مواردها، والمحافظة على ثرواتها، وتعظيم القيمة النوعية لإرثها الحضاري، والتنويع في اقتصادها، وكفاءة موارده البشرية، وفي إطار خطط السلطنة الاقتصادية ورؤيتها التنموية الطموحة "عُمان 2040" نحو تعزيز فرص التنويع الاقتصادي والتوازن المالي، وحوكمة الأداء، وترسيخ منهجيات قياس الأداء الفردي والمؤسسي لضمان كفاءة الأداء الحكومي، فقد انتجت رؤية العمل الوطنية جملة من التوجهات التنفيذية في سبيل بناء لبنات الإصلاح الإداري وتعزيز كفاءة الأداء الحكومي، وعبر اتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، وتحديث منظومة التشريعات والقوانين وآليات وبرامج العمل وإعلاء قيمه ومبادئه وتبني أحدث أساليبه، وتبسيط الإجراءات وحوكمة الأداء والنزاهة والمساءلة والمحاسبة؛ لضمان المواءمة الكاملة والانسجام التام مع متطلبات رؤية "عُمان 2040" وأهدافها، لتشكل هذه الإجراءات الثابتة مدخل لتأطير مفاهيم الإدارة الاستراتيجية المعاصرة وتجسيدها في واقع الأداء الحكومي، والطريق الذي يجب أن يُسلك في سبيل تحقيق أولويات هذه الرؤية ونقلها إلى حيز التنفيذ الفعلي، وبالتالي ما تعنيه هذه الإجراءات الثابتة التي وضعها جلالة السلطان في خط سير لبناء عُمان المستقبل، الأمر الذي جعل مسألة الإصلاح الإداري حتمية الورود، وهي بحاجة إلى ممكنات داعمة لها، ومختبرات عملية تقرأ معطيات المنظومة الإدارية بالسلطنة، وتصبح عمليات الإدارة المعززة للإنتاجية جزءا من المهمة الصعبة في بناء عُمان المستقبل.
عليه جاء المرسوم السلطاني رقم (2/2022) بإنشاء الأكاديمية السلطانية للإدارة وتحديد اختصاصاتها واعتماد هيكلها التنظيمي تحت الرعاية الفخرية لجلالة السلطان، خيارا استراتيجيا للبدء في إصلاح جذري للمنظومة الإدارية وعملياتها ومفاهيمها ومفرداتها، واختيار القيادات، واختبار الكفاءات، وتمكين المخلصين ستتبعها خطوات قادمة في تعزيز الجاهزية الإدارية والتدريبية. ولعل ما تحمله هذه الأكاديمية من فرص تنافسية كبيرة؛ كونها نتاجا لجهد وطني سابق في التدريب والتأهيل وفق ما أشارت إليه المادة(8) تؤول إلى الأكاديمية السلطانية للإدارة كافة المخصصات والأصول والحقوق والالتزامات والموجودات الخاصة بكل من: معهد الإدارة العامة، ومعهد تطوير الكفاءات في ديوان البلاط السلطاني، ليشكِّل هذا الدمج تمازجا نوعيا في منظومة التدريب المستدام والإدارة الفعالة وإعادة هيكلتها وتعزيز كفاءتها عبر دمجها ضمن منظومة وطنية متكاملة في التدريب والتأهيل الإداري، بحيث تعمل على توفير أفضل الفرص والاستراتيجيات للانتقال بالتدريب والتأهيل في الإدارة من الوقتية والكم إلى الاستدامة والنوعية، وتوفير الحلول الاستراتيجية القادرة على إعادة هيكلة التدريب الإداري وتحسين مستواه وضبط مفاهيمه واستراتيجياته، وأنشطته وبرامجه ومحتواه، ومعالجة جذرية لكل المفاهيم التي ما زالت تسيطر على واقع التدريب وتحاكمه وفق تراكمات سابقة، ومعالجة مشكلة الهدر والفاقد التدريبي في الإدارة الذي لازم مسار التدريب لفترات طويلة، وعبر توفر أدوات القياس وأنماط المعالجة، والمراجعة المستمرة لمنظومة التدريب الإداري بمخلف أنماطها وغاياتها على مستوى الحياة الشخصية، والسلوك العام أو على مستوى الوظائف العامة، ومؤسسات الجهاز الإداري للدولة لتمتد إلى تقديم استشاراتها الإدارية للقطاع الخاص.
على أن اشتغال الأكاديمية بالإدارة وعملياتها المختلفة، مرجعية وطنية في صناعة الإدارة، وضمان وضوح الهُوية الإدارية، والمحافظة على ممكنات وجودها في منظومة العمل المؤسسي خصوصا في بناء الاستراتيجيات والخطط، وقِيم المؤسسات، ومبادئها الإدارية والتنظيمية، والكفاءة الداخلية والخارجية، وفق فلسفة إدارية واضحة وفقه إداري أصيل له يتناغم مع الحالة العمانية، ويعبِّر عن تنافسية نسبية تبرز روح الإدارة والتحولات الحاصلة في السلوك الإداري بالمؤسسات، الأمر الذي سيعمِّق من مؤشرات بناء القدرات الوطنية، ورفع سقف الكفاءة الإدارية وأعمال التدريب وتقديم الخبرة لمؤسسات الجهاز الإداري للدولة في التعاطي مع التحولات الحاصلة في منظومة الأداء الحكومي، خصوصا في تزامنها مع البدء في تنفيذ مسار قياس الأداء الفردي والمؤسسي، والتوجيهات السامية نحو تطبيق أفضل النماذج العالمية الوطنية في الإدارة المحلية بما يتناغم مع الهُوية العمانية وخصوصية فلسفة العمل الوطني، كما أن المستوى التنظيمي لهذه الأكاديمية يؤهلها لاستشراف المستقبل بما يمكن أن تقدمه الأكاديمية من مبادرات جادة وبرامج تدريبية متخصصة في مجال الإدارة وعملياتها المختلفة، باعتبارها بيت خبرة وطنيا يضم كفاءات عالمية ووطنية في الإدارة، لتضم العديد من المعاهد والمراكز البحثية والعلمية في مجال الإدارة والتدريب الإداري، بهدف تقديم الاستشارات وأعمال الخبرة لمنظومة الجهاز الإداري للدولة، وتدريب القيادات العليا بالدولة على مستوى الوزراء والوكلاء ومن في حكمهم في كل ما يتعلق بمنظومة الإدارة والتحولات الحاصلة فيها، الأمر الذي سيسهم على المدى البعيد في استقطاب الكفاءات والخبرات الوطنية، وتعظيم الفرص التدريبية النوعية التي تقدمها الأكاديمية لمختلف مؤسسات الجهاز الإداري للدولة، وفي الوقت نفسه ما يمكن أن تثمر عنه جهود الأكاديمية في قادم الوقت من شراكات استراتيجية وتوقيع مذكرات التفاهم مع الجامعات والأكاديميات العالمية المتخصصة في مجال الإدارة، للحصول على اعتماد أكاديمي لها في مجال التدريب الإداري، ومن خلال توفير الأدوات والمقاييس ذات الصلة.
وتبقى الإشارة إلى أن انشاء الاكاديمية السلطانية ليس حدثا عاديا، والمسألة ليست مجرد دمج معهد الإدارة العامة التابع للخدمة المدنية (سابقا) ومعهد الكفاءات التابع لديوان البلاط السلطاني؛ بل في حقيقته مرحلة متقدمة من الحدس والاستشعار السامي للمستقبل بالدور القادم للإدارة في الثورة الصناعية الرابعة، في إعادة هندسة الممارسة الوطنية وتصحيحها والتثمير في الفرص وإعادة إنتاجها في سبيل بناء الموارد البشرية، وتعظيم القيمة التنافسية للرأسمال البشري الاجتماعي الوطني، وتعزيز منظومة القِيم الإدارية وإدخالها ضمن البناء المؤسسي وإعادة إنتاجها بطريقة أكثر ذكاء وابتكارا واحترافية من خلال تعميق حضورها في الأداء الوظيفي للموظف، ورسالة المؤسسة، وخططها التنفيذية، والقرار المؤسسي، والعلاقات المهنية، وإدارة المشاعر، والإدارة المالية، وتحليل بيئة العمل؛ باعتبارها مدخلات لتعميق فلسفة الإدارة المعاصرة القادرة على صناعة الفارق وإنتاج التغيير، وتبقى الطموحات والآمال المعقودة على الأكاديمية، مرهونة بما يمكن أن تطرحه من مسارات تدريبية متخصصة في مجال الإدارة، وبناء القدرات التنفيذية والتخطيطية والتنظيمية والرقابية، وصناعة القدوات، سواء من خلال تأهيل وتطوير القيادات الإدارية الحالية في الجهاز الإداري للدولة، أو إعداد القيادات الواعدة للمستقبل في القطاعين العام والخاص، وفق الأدوات والمنهجيات الحديثة في الإدارة الاستراتيجية، آخذة في الاعتبار كل المعطيات الوطنية الحالية التي تضمن خط سير واضحا لعمل الأكاديمية، مستشرفة رؤية "عُمان 2040" ومتطلبات الاقتصاد العماني، واستحقاقات التنويع الاقتصادي بما تتطلبه، من كفاءة الإدارة، ورصانة عملياتها، واستفادتها من التقنيات المتطورة وتطبيقاتها، والذكاء الاصطناعي وغيرها من الممارسات الإدارية عالية الجودة.
من هنا نستشرف في إنشاء الأكاديمية السلطانية للإدارة مرحلة جديدة في بناء الفقه الإداري المعاصر وترسيخ أعمدة نجاحه، ورسم استحقاقات المرحلة بما تتطلبه من حضور قوي للإدارة الفاعلة ومنهجياتها في منظومة الأداء وحوكمته، وعبر ما تقدمه من مبادرات وبرامج وخطط تساند مؤسسات الجهاز الإداري للدولة في تنفيذ اختصاصاتها، وتبصيرها بآلية تعاطيها مع المهام المتجددة، وعبر البرامج التدريبية المتخصصة، ودراسات الحالة، والدراسات الاستشرافية، وفي الوقت نفسه كونها بيئة تعليمية تدريبية متكاملة يمكن أن تشكل فرصة للمزيد من التكامل مع القطاعات الأخرى العسكري والأمني والقطاع الخاص وشركة (BDO) في منظومات التدريب والتأهيل الوطنية في مجال الإدارة الاستراتيجية وتحليل الأداء وبناء السيناريوهات وغيرها، الأمر الذي يتيح لهذه الأكاديمية في ظل الميزة التنافسية النسبية التي تتمتع بها، والمستوى التنظيمي الذي تتعامل معه، تعزيز دورها الاستراتيجي في بناء القدرات الوطنية ورسم استحقاقات نجاح تنعكس على جودة الأداء الحكومي، وقدرته على الاستجابة الفورية للابتكار والتطوير الإداري.
وعودا على بدء، تبقى الأكاديمية السلطانية للإدارة، والرعاية السامية لها من لدن جلالة السلطان المعظم، منصة إشعاع إداري، لتأصيل الأبعاد المفاهيمية والمنهجية والبحثية لمنظور الإدارة، وتطويعه بما يتناغم مع الحالة العمانية، وقراءة أكثر عمقا وتوثيقا وتوظيفا للإرث الحضاري العماني عامة، وإنتاج مبادرة وطنية جادة لدراسة الفكر الإداري والإرث الخالد لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيَّب الله ثراه ـ بما تضمنه من ثراء واسع في الممارسة الإدارية والقيادية الناجحة، وما جسده الفكر السامي من أساليب وقِيم ومواقف في الإدارة الاستراتيجية والعسكرية، والقيادة والتخطيط، والأزمات والتنظيم والإتيكيت والدبلوماسية والقيادة الاستراتيجية وغيرها كثير، ورصد أفضل الممارسات الإدارية التي انتهجتها السلطنة في بناء الدولة، وصناعة الإنسان، وإنتاج السلام، وتحقيق الأمن، وكيف يمكن تطويرها والاستفادة منها في تنفيذ أبجديات رؤية "عُمان 2040"، موجهات سوف تضيف إلى عمل الأكاديمية فرص نضج أقوى، لتنقلها إلى العالمية، وتبرزها في برامجها وخططها ونواتج عملها في تطوير مسار الإدارة القادم في المشهد العماني وفق مفاهيم محكّمة، وأصول مضبوطة، ومنهجيات راقية، وأدوات مجربة، وأنظمة مقننة.