عادل سعد:
تظل المكاشفة الصحفية واحدةً من أهم الأعمال الرائدة التي تستحق الإشادة، خصوصًا إذا اعتمدت آليات استقصائية على درجة من الدقة متخذةً من الميدان مسرحًا لجمع المعلومات وتوظيفها لصالح جلاء الحقيقة.
لقد أدهشني حقا التقرير الوثائقي الذي نشرته صحيفة (نيويورك تايمز) قبل عدة أيام متناولًا الضربات التي نفذها سلاح الجو الأميركي في ثلاث ساحات، العراقية، والأفغانية، والسورية.
ما يحسب للصحيفة من مهنية عالية أنها وظفت لهذا الموضوع الاستقصائي أكثر من مئة صحفي أمضوا أكثر من ستة أشهر في جولات ميدانية لفحص مناطق استهدفها القصف الأميركي، ولقاء متضررين من جرائه، وكذلك فحص وثائق سرية.
لقد خلصت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقريرها إلى أن ما أصاب المدنيين من أضرارٍ بليغةٍ يعود إلى سببين؛ الأول، المعلومات الاستخبارية التي على أساسها يمكن تحديد الهدف. والثاني، يتعلق بعجز الذكاء المنسوب إلى القنابل المستخدمة التي يزعم صانعوها أنها لا تخطئ أهدافها، في حين أن شوائب عديدة ظلت تحكم كل ذلك مما تسبب بمقتل أكثر من 1300 مدني أغلبهم من النساء والأطفال ومدنين آخرين ليس لهم أية علاقة بالأهداف المنتقاة التي طالها القصف، وبقدر ما أثار التقرير من أسئلة واتهامات موثقة، فإنه يشي بأهمية هذا النوع من الإنجازات الصحفية، الوضع الذي يعكس خرق الالتزامات الأخلاقية بموجب المعايير الواردة ضمن اتفاقيات جنيف لعام 1949 التي تضع بالاعتبار الأول صيانة حياة المدنيين والضمانات التي ينبغي أن تحكمه، وأن يكون ذلك مقياس نظافة الحروب، وقد تطور هذا الموقف بموجب لائحة قدمها الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك بطرس غالي عام 1993 إلى مجلس الأمن الدولي فاعتبرها المجلس ملزمة حتى بالنسبة للدول التي لم توقع على تلك الاتفاقية.
بخلاصة تحليلية، ما نشرته "نيويورك تايمز" يمثل انتصارًا للجهد الصحفي الذي يتوخى إنصاف الحقيقة وإنارة الرأي العام بها، خصوصًا أن إنجاز هذا التقرير رصِدت له كلفة مالية كبيرة في السفر وتأمين تدفق المعلومات، والتعرض إلى مخاطر أمنية في مناطق الأحداث، وهو في كل ذلك يبعث برسالة واضحة أن مكاسب الحروب تكون ضئيلة، إن لم تكن معدومة، خصوصًا مقابل ضحايا مدنيين لا ذنب لهم في الذي يجري، بل ويمكن أن يترتب عليه إجراءات لإنصاف الضحايا.
لقد اجتهد الكثير من المعنيين بالمهنة الصحفية حول أهمية الموضوعية، وأن من المنطقي أن تكون استقصائية على طول الخط، بل هي أشد أهمية في الحالات التي تتعرض فيها حياة الناس الأبرياء للخطر.
استطرادًا، إنها عمل أخلاقي بامتياز؛ لأنه سعى إلى المعاينة والكشف، ويعد انتشالًا للحقائق من دوائر التعتيم والنسيان، وتأسيسًا على ذلك من الحتمي أن يدفع أصحاب الشأن في القرار السياسي إلى التفكير مليًّا في كل الاحتمالات وفي مقدمتها احتمال حصول أخطاء.
لقد خلصت تقارير عديدة على أن قائمة ضحايا القصف الأميركي على العراق وأفغانستان وسوريا لم تقتصر على الذين وقعوا في مرمى النيران وقضوا في تلك الحوادث، وإنما شملت آخرين كانوا على مقربة مكانية وعائلية من سقوطها.
إن تقرير "نيويورك تايمز" معمول بذكاء مهني، ومواظبة استكشافية متعبة حقًّا، لذلك من العدل تصنيفه على أنه واحد من أجرأ التحقيقات الصحفية الاستقصائية لعام 2021، مع ملاحظة لافتة أن العديد من وسائل الإعلام في العالم التي لها مواقف مناهضة للسياسات الأميركية اعتمدت في تحليلاتها على المعلومات التي وردت فيه كقاعدة بيانات، بل وأشادت بموضوعية "نيويورك تايمز" بغضِّ النظر عن بعض الآراء التي ترى فيه عملًا استقصائيًّا بدوافع سياسية يراد به تسويق عنوان الشفافية عن النفوذ الأميركي الدولي على أساس الاعتراف بالحقائق حتى وإن كانت صادمة.