محمد عبد الحليم القاضي:الادخار ظاهرة إيجابية، ظهرت مع ظهور الإنسان، فحينما بدأ الإنسان حياته على الأرض وبدأ يمارس بعض المهن التي يكتسب منها قوته، مثل:(الزراعة ـ الصيد..)،وجد نفسه مُعرّضا لأي شاغل أو مانع أو عارض يعرض له فيشغله عن عمله، فلاحت في الأفق مشكلة لم تكن في حسبانه ومفادها: أنا أعمل في وقت الرخاء، وأكتسب ما يكفيني وربما زيادة، فماذا أفعل في وقت الشدة وعدم القدرة على العمل؟ وأحياناً أكتسب ما يزيد عن حاجتي، ماذا أفعل فيه أيضاً؟إلى أن جاءت الفكرة: أحتفظ بالشيء الزائد عن الحاجة في وقت الرخاء، واستخدامه في وقت الشدة.فكان الادخار هو الإجابة عن كل هذه الأسئلة.. فهيا بنا نتعرف على الادخار:الادخار لغةً: كما في ـ معجم الرائد:(من ادخر الشيء: خبأه لوقت الحاجة إلي)،والادخار اصطلاحًاهو:(الاحتفاظ بجزء من الكسب لوقت الحاجة إليه).إن الادخار له أهمية كبيرة تظهر فيما يأتي:يحث على حفظ الكسب الزائد عن الحاجة لوقت الحاجة، يساعد الإنسان على تنظيم أمور حياته وترتيب أولوياته، ويوفر لدى الإنسان فائضًا يساعده على التخلص من الأزمات الطارئة،ويساعد على تكوين ذمة مالية مستقلة لكل فرد من أفراد المجتمع، ويقضي على ظاهرة الإسراف التي تسببها زيادة الموارد عن حاجة الاستخدام، ويقوي روح التعاون والترابط لدى أفراد المجتمع، وذلك بمد يد العون من المدخر إلى المحتاج في وقت احتياجه، ويجعل المجتمع غنيًا مكتفيًا ذاتيًا، لأن كل فرد فيه ينظم دخله واستهلاكه.كانت قيمة الادخار ـ قديمًا ـ سببًا في إنقاذ بلاد مصر والشام من موت محقق، وذلك بحسن قراءة النبي الكريم يوسف الصديق ـ عليه السلام ـ للمشهد، وحسن تدبيره وتخطيطه للأحداث، حينما كان على خزائن مصر، يقول الله تعالى:(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِىسُنۢبُلِهِإِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِىمِنۢ بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ) (يوسف 47 ـ 48)،فاستطاع يوسف ـ عليه السلام ـ أن يوفر الموارد الزائدة في وقت الرخاء، ليعبر بها وقت الشدة.وظل الحال على ذلك بعد عصر يوسف ـ عليه السلام ـ وكان بنو إسرائيل يمارسون هذه العادة، وكان الله تعالى يبارك لهم في الطعام المدخر فلا يفسُدُ، لكن فشا فيهم مرض البخل، فكانوا يدخرون كل شيء، ولا يعطون أي شيء للفقراء، فابتلاهم الله تعالى بـ(فساد الطعام) بعد مدة من ادخاره.وقد جاء ذلك في حديث أبي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:(لَوْلَا بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْبُثِ الطَّعَامُ، وَلَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ..) رواه البخاري ومسلم واللفظ له.وكان الله تعالى يُنزل على بني إسرائيل المن والسلوى ونهاهم عن ادخار هما ليعطوا الفقراء والمحتاجين، فادخروا ففسد وأنتن واستمر من ذلك الوقت.وقد حثت الشريعة الإسلامية على ادخار الفائض عن الحاجة والانتفاع به ونفع المحتاجين والمجتمع.فعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، أن رَسُول اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ له:(إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلَّا أُجِرْتَ بِهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ..)(رواه البخاري ومسلم).ويحكي لنا النبي الكريم قصة هذا الرجل الذي كان يعيش في العصور السابقة، ويبن لنا طريقته في العمل والادخار، لنفع نفسه ومجتمعه وتعمير الأرض.فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(بَيْنما رَجُلٌ بفَلاةٍ مِنَ الأرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتًا في سَحابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، فَتَنَحَّى ذلكَ السَّحابُ، فأفْرَغَ ماءَهُ في حَرَّةٍ، فإذا شَرْجَةٌ مِن تِلكَ الشِّراجِ قَدِ اسْتَوْعَبَتْ ذلكَ الماءَ كُلَّهُ، فَتَتَبَّعَ الماءَ، فإذا رَجُلٌ قائِمٌ في حَدِيقَتِهِ يُحَوِّلُ الماءَ بمِسْحاتِهِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ ما اسْمُكَ؟ قالَ: فُلانٌ، لِلاِسْمِ الذي سَمِعَ في السَّحابَةِ، فقالَ له: يا عَبْدَ اللهِ لِمَ تَسْأَلُنِي عَنِ اسْمِي؟ فقالَ: إنِّي سَمِعْتُ صَوْتًا في السَّحابِ الذي هذا ماؤُهُ يقولُ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلانٍ، لاِسْمِكَ، فَما تَصْنَعُ فيها؟ قالَ: أمَّا إذْ قُلْتَ هذا، فإنِّي أنْظُرُ إلى ما يَخْرُجُ مِنْها، فأتَصَدَّقُ بثُلُثِهِ، وآكُلُ أنا وعِيالِي ثُلُثًا، وأَرُدُّ فيها ثُلُثَهُ(، فهذا الرجل بورك له، لأنه كان يدخر ما يزيد عن حاجته ليعيد تعمير الأرض، وينفع نفسه والفقراء والمحتاجين.ولكن لابد أن نفرق بين الادخار والكنز المذموم في قوله تعالى:(.. وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِى سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) (التوبة ـ 34)، فكل مال لا تؤدى زكاته، ولا ينفع الناس كنز مذموم، فلا مانع من الادخار بشرط أن ينفع الإنسان به نفسه ومن يعولهم، وينفع مجتمعه.فعَنْ خَيْثَمَةَ، قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ، فَدَخَلَ، فَقَالَ: أَعْطَيْتَ الرَّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم):(كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يَحْبِسَ عَمَّنْ يَمْلِكُ قُوتَهُ) (رواه مسلم)، ثم قرر الله تعالى مبدأً ينظم لنا كل شيء في حياتنا المالية، حيث قال تعالى:(وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذٰلِكَ قَوَامًا) (الفرقان ـ 67)،فالإسلام دين الوسطية، ويأمر بها في كل شيء.*عضو الاتحاد الدولي للغة العربية