محمود عدلي الشريف:
أيها الموحدون.. وأسأل الله أن يجعلنا جميعًا من أهل المعروف والصلاح والخير والإصلاح، وأن يوفقنا لما فيه الخير لنا وللناس، وأن يحفظنا جميعًا من كل شر وبأس. وبعد.. فقد جاءت شريعتنا الغراء بكل حسن يحسن لنا الحياة، وما من خير إلا وقد ساقهالله تعالى إلينا، وأمرنا بالعدل والإحسان والمعروف ونهانا عن الظلم والفحشاء والمنكر،بل وجعل لنا روابط وضوابط بها نحفظ أنفسنا ونحافظ على غيرنا، وحثنا على التعامل بالفضل والكرم حسن الخلق، ولنتعامل مع الناس بتقواه سبحانه، وعلى كل حال جل شأنه حافظنا، بل ويؤجرنا على تعاوننا وحسن تعاملنا ويثيبنا، ويخرجنا من كل كرب وهم وغم ومصيبة.
وقد كان لنا رسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) القدوة الحسنة والأسوة المتحققة أمام أعيننا بفعله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ كما أوصانا بالمعروف وأمرنا به وحذرنا من المنكر ونهانا عنه، ففي (المعجم الكبير للطبراني 8/ 261):(عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ)، ومعنى (صنائع الْمَعْرُوف): جمع صَنِيعَة وَهِي مَا اصطنعته من خير،(تَقِيّ مصَارِع السوء والآفات والمهلكات وَأهل الْمَعْرُوف فِي الدُّنْيَا هم أهل الْمَعْرُوف فِي الْآخِرَة) تنويه عَظِيم بِفضل الْمَعْرُوف وَأَهله،(تَقِيّ مصَارِع السوء): أَي: السُّقُوط فِي الهلكات)(التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 93)، (لأن صنائع المعروف لا تكون إلا من حسن الخلق والصنائع حسنات والحسنات يذهبن السيئات) (فيض القدير 3/ 384)، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط عَن أم سَلمَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم):(صنائع الْمَعْرُوف تَقِيّ مصَارِع السوء وَالصَّدَقَة خفِيا تطفئ غضب الرب وصلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر وكل مَعْرُوف صَدَقَة وَأهل الْمَعْرُوف فِي الدُّنْيَا هم أهل الْمَعْرُوف فِي الْآخِرَة وَأهل الْمُنكر فِي الدُّنْيَا هم أهل الْمُنكر فِي الْآخِرَة وَأول من يدْخل الْجنَّة أهل الْمَعْرُوف)، وفي (الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 6/ 288)، وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم):(صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السَّوْءِ، وَالْآفَاتِ وَالْهَلَكَاتِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ، وَكُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ، وَأَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الدُّنْيَا، هُمْ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ فِي الْآخِرَةِ وَأَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الدُّنْيَا، هُمْ أَهْلُ الْمُنْكَرِ فِي الْآخِرَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَهْلُ الْمَعْرُوفِ)،وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا فِي كتاب (قَضَاء الْحَوَائِج) وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) والأصبهاني فِي (التَّرْغِيب) عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ:(صَدَقَة السِّرّ تطفئ غضب الرب وصلَة الرَّحِم تزيد فِي الْعُمر وَفعل الْمَعْرُوف يقي مصَارِع السوء).
لو تأملناـ أيها الإخوة الكرام ـ هذه النصوص الكريمة من حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لوجدناها تبشرنا وتحذرنا في نفس الوقت بل وتضمن لنا ذهابًا وإيابًا كل يوم وإلى أي مكان ونحن في أمن وأمان بفضل الله تعالى، فما دعاني لهذا الأمر ما نرى اليوم من المفاجآت من الموت، ومصائب الدنيا، ترى وتسمع من الناس الكثير والغريب العجيب، فأردت أن ألفت أنظاركم وإياي إلى هذه النقطة المهمة والتي لابد أن نأخذها في الحسبان ونعمل بها الآن وليس بعد قليل، خاصة ونحن نسير في الطرقات ليل نهار لا يحملنا إلى إطار ملئ بالهواء سرعان ما ينفجر، ولكن عناية الله تعالى تحرسنا.. فهلا ازددنا منها؟!.
فالإكثار من العمل الصالح في الرخاء ينجي الله به عبدهُ في الشدةِ، قال ابن كثير:(أي: بادِرُوا بالطاعة قبل حلول النقمة، فصنائع المعروف تقي مصارع السوء والآفات والهلكات)ـ
نسأل الله تعالى أن يحفظنا وإياكم من مصرع السوء، بل ولو تأملنا صنع المعروف لوجدناه (يحرس صاحبه بعنايه ربه، وبه أيضًاتكسب مودة الناس بأسباب متعارفة بينهم منها القرابة، ومنها الصداقة، ومنها صنائع المعروف، ومآثر الإحسان فيودهم من لم يكن بينه وبينهم علاقة نسب أو صداقة، ولا وصل إليه منهم معروف)(تفسير ابن باديس في مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، ص: 340)، وكم نرى أو نسمع من حوادث من يشاهدها يتعجب من نتائجها قائلًا: سبحان كيف تم هذا؟!، وكأنه مستحيل من شدة الغرابة في وقوعه، ومن أجمل ما قرأت في هذا الموضوع ما روي (عَنْ رَافِعِ بْنِ مَكِيثٍ ـ وَكَانَ مِمَّنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ قَالَ:(حُسْنُ الْمَلَكَةِ نَمَاءُ وَسُوءُ الْخَلْقِ شُؤْمٌ، وَالْبِرُّ زِيَادَةٌ فِي الْعُمُرِ، وَالصَّدَقَةُ تَمْنَعُ مَيْتَةَ السُّوءِ) (الأموال لابن زنجويه2/ 760).
والعجيب أن نلاحظ هذا في أنفسنا يكاد يكون كل يوم، تجد من يقول: الحمد لله نجاني الله من موت محقق في كذا، وتجد من يقول الحمد لله في آخر لحظة نجاني الله تعالى من حادث محقق مميت، وتجد من يقول: الحمد لله كدت أن أقع (أطيح) على الأرض فأموت لولا ستر الله.. وغيره من القصص العجيبة التي يتجلى فيها عظيم لطف الله اللطيف الخبيربنا كل لحظة.
فرحمته سبحانه وتعالى لا تحد ولا تعد، وانظر إلى ما رواه صاحب (الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2/ 80):(أخرج أَحْمد فِي الزّهْد عَن سَالم بن أبي الْجَعْد قَالَ: كَانَ رجل فِي قوم صَالح عَلَيْهِ السَّلَام قد آذاهم فَقَالُوا: يَا نَبِي الله ادْع الله عَلَيْهِ،فَقَالَ: اذْهَبُوا فقد كفيتموه وَكَانَ يخرج كل يَوْم فيحتطب فَخرج يَوْمئِذٍ وَمَعَهُ رغيفان فَأكل أَحدهمَا وَتصدق بِالْآخرِ فاحتطب ثمَّ جَاءَ بحطبه سالما فجاؤوا إِلَى صَالح فَقَالُوا: قد جَاءَ بحطبه سالمًا لم يصبهُ شَيْء فَدَعَاهُ صَالح فَقَالَ: أَي شَيْء صنعت الْيَوْم فَقَالَ: خرجت وَمَعِي قرصان تَصَدَّقت بأحدهما وأكلت الآخر، فَقَالَ صَالح: حل حطبكفَحله فَإِذا فِيهِ أسود مثل الْجذع عاض على جذل من الْحَطب فَقَالَ: بهَا دفع عَنهُـيَعْنِي بِالصَّدَقَةِ)، فسبحان الله انظروا إلى هذا الثعبان الأسود الذي اختبأ بين الحطب وبدل من أن يعض على يد الرجل عض على جذل من حطب، وقد أذهب سيدنا صالح عن عقولنا العجب بقوله له:(بها) أي: بصدقته دفع عنه، فسبحان الله، ومن العجيب أيضا هذه القصة في هذه الرواية التي أخرجها الإمام أَحْمد عَن سَالم بن أبي الْجَعْد قَالَ:(خرجت امْرَأَة وَكَانَ مَعهَا صبي لَهَا فجَاء الذِّئْب فاختلسه مِنْهَا فَخرجت فِي أَثَره وَكَانَ مَعهَا رغيف فَعرض لَهَا سَائل فَأَعْطَتْهُ الرَّغِيف فجَاء الذِّئْب بصبيها فَرده عَلَيْهَا).
وما نحن في منأى عن هذا بل إننا أشد عرضة ممن سبقنا ولكن لطف الله بنا فلا ينبغي أن نغفل عن هذا، فلم تكون عودتنا إلى بيوتنا سالمين بمهاراتنا في قيادة السيارة أو بذكائنا في السير على الطرق، وإنما هي إرادة المنعم المتفضل سبحانه وتعالى وحده.
وإليكم هذه الرواية وأختم بها هذه الحلقة "أخرج أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن أبي ذَر قَالَ: قَالَ رَسُول الله (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم):(ثَلَاثَة يُحِبهُمْ الله وَثَلَاثَة يبغضهم الله فَأَما الَّذين يُحِبهُمْ الله فَرجل أَتَى قوما فَسَأَلَهُمْ بِاللَّه وَلم يسألهم بِقرَابَة فَتخلف رجل من أَعْقَابهم فَأعْطَاهُ سرا لَا يعلم بعطيته إِلَّا الله وَالَّذِي أعطَاهُ وَقوم سَارُوا ليلتهم حَتَّى إِذا كَانَ النّوم نزلُوا فوضعوا رؤوسهم فَقَامَ رجل يتملقني وَيَتْلُو آياتي وَرجل كَانَ فِي سَرِيَّة فلقي الْعَدو فهزموا فَأقبل بصدره حَتَّى يقتل أَو يفتح لَهُ، وَثَلَاثَة يبغضهم الله الشَّيْخ الزَّانِي وَالْفَقِير المختال والغني الظلوم).. فهيا إلى المعروف لندفع عن أنفسنا بفضل ربنا كل سوء.. وحتى نلتقي في الحلقة القادمة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.