مسقط -العمانية: يشكل الرمز الشعري في القصيدة العربية الحديثة ملمحًا جماليًّا، ويحضر بعدّة وجوه بحسب استخدامات الشاعر لهذا الرمز، ولأن هناك ترابطا وثيقا بين الوصف الجمالي الشعري وماهية الرمز في القصيدة، كان التساؤل واقعيًّا حول الرموز التي استقاها الشاعر العُماني وجعلها واضحة المعالم في قصيدته، وما إذا نجح الشاعر العُماني أيضا في صنع رموزه المبتكرة. في هذا الشأن يطرح الشاعر محمد قراطاس رأيه بشفافية عندما يشير إلى أن الرمز أو المجاز أو التورية أو أي مسمّى أدبي يعني كتابة شيء لإظهار شيء آخر، كان ولا يزال أداة الأدباء وقناع مادتهم الأدبية. حيث إن الأدب الذي لا يستخدم الترميز هو أدب أقرب إلى التقرير منه إلى الإبداع. ويقول قراطاس: العمانيون كغيرهم من العرب جعلوا الرمز درعهم وزينتهم الأدبية ليكون التطريز لحبكتهم أو لمعناهم، وكذلك لم يخرجوا كثيرًا عن الرموز العامة التي استخدمها الأدباء العرب، فمنذ الجاهلية اُستخدمت الطبيعة ومكوناتها في أدبهم، ابتداء من الأطلال وترميزها إلى الماء والحيوان والشجر، وقد يكون الترميز مدحًا واضحًا وهي التشبيهات، كأن يكون الشجاع ليثًا والكريم سحابًا إلى آخره، أو يكون الترميز خوفًا، وظهر الترميز الذي يُبنى على الخوف من ردة فعل الآخر بعد ظهور التابوهات. ويشير قراطاس إلى أن في الشعر الحديث اُستخدمت الرموز الطبيعية أيضا وأضيفت إليها رمزية المشاعر لوصف حالة تمرد معينة. وحول ما إذا نجح الشاعر العُماني أيضا في صنع رموزه المبتكرة يقول قراطاس: الشاعر العُماني كغيره من الشعراء العرب يستخدم مادته الطبيعية والمحلية في الترميز، ولكنها ليست مبتكرة كونه يعيش في بيئات متشابهة وأعني أدوات الطبيعة حوله، لكنه قد يستخدم مثلًا الخريف أو الأفلاج أو مصطلحات العادات والتقاليد في نصوصه وهي رموز تخص العُماني، لكني لا اعتبره ابتكارًا كون أن هذه العناصر هي المعين الطبيعي للترميز عند الشاعر، فعندما يستخدم الشاعر العُماني الخريف أو الضباب أو الأفلاج، ففي الجهة المقابلة له يستخدم الشاعر العراقي نهري دجلة والفرات وعيد النيروز، وكلها أدوات من الذاكرة الجمعية للشعوب، لذلك الرمز بكل دلالاته وظلاله التي يلقيها في قلب المتلقي تصنع أثرًا يبقى لفترة طويلة سواء كان هذا التأثير سلبيا أو إيجابيًا.
ويضيف: من المستغرب أن الرمز بدأ يختفي في الشعر الشعبي الخليجي بشكل واضح في التجارب الحديثة، حيث أصبح شعر الخطابة والحماسة والغزل الظاهر هو الغالب عليه، ولا أعلم هل هذا نكوص إلى الخلف أم أن المجتمع أصبح طاردا للشعر الرمزي ولم تعد القصائد التي تستخدم الرمز ذات تأثير حقيقي في المتلقي الخليجي، فيما إن الشعر الفصيح مازال يتقدم بخطوات ثابتة في هذا المجال ويتطور سواء القصيدة العمودية أو الحرّة أو النثر، وربما للتواصل الاجتماعي تأثير قوي في هذا المجال، لكن التساؤل الذي ينشأ هنا (هل سيستمر هذا التأثير أم سيتقلص مع الوقت) فالأيام كفيلة بكشف ذلك. وللشاعر علي بن سالم الحارثي رأيه الخاص في الرمز وكيفية استيقاء الشاعر العماني له، فهو يشير إلى أن الرمزية تُعد واحدة من أهم السمات المميزة للقصيدة العربية المعاصرة، وهي تقنية كتابية يستخدمها الشاعر بهدف تحويل الوظيفة التواصلية التقليدية للغة إلى وظيفة إيحائية تكسبها طاقة تعبيرية مشعة ومتجددة، وبالتالي فإنها تعمل على استثارة تفكير المتلقي وإحداث الدهشة لديه مما يسمح له بتمثيل الأفكار وإيجاد مستويات متعددة للمعنى. ويضيف الحارثي موضحا: لأن الشاعر العُماني شاعر مبتكر بطبيعته فإن الرمز هو الوسيلة الأكثر حضورًا في ذهنه عندما يرغب في أن يعبر عن مشاعره بطريقة غير مستهلكة، لفاعلية الرمز في منح الشاعر مساحة شاسعة للتعبير وفرص توظيف متعددة، بشرط أن يكون متوائما مع السياق العام للنص، فقد تنوعت أساليب الشعراء العُمانيين في استخدام الرمز بين الاستخدام البسيط للدلالة المباشرة عن المعنى وبين الاستخدام المركّب لإضافة مزيد من التعقيد عليه ليكون تحت طائلة التأويل المفتوح، فنجد الشاعر العُماني استخدم الرمز التراثي بشكله التاريخي والديني بالإضافة إلى الرمز الأسطوري والصوفي وتجاوز بعض الشعراء ذلك ليكون لهم رموزهم الخاصة المستوحاة من التجربة الحياتية أو من البيئة الطبيعية المحيطة، فأنا لا تحضرني أسماء بعينها أو أمثلة محددة، ولكن من خلال مطالعتي لتجارب الشعراء العُمانيين على مستوى الفصيح خصوصا وبعض التجارب على مستوى الشعبي يتضح جليا في كتاباتهم محاولة البحث عن مسالك غير مُعبّر عنها، والرمز يُعد النافذة الأكبر اتساعا للولوج إلى تلك المسالك لما يمتلكه من تأثير إيحائي يعمل على تعزيز هندسة الصورة الشعرية ويعمق طاقتها الموسيقية والتعبيرية إلا أنه يحتاج إلى قدر عالٍ من الجهد الذهني والحزم الفني حتى لا تفقد الصورة تناغمها مع السياق العام للنص فتدخل تحت وطأة الغموض السلبي.
وحول ما إذا نجح الشاعر العُماني أيضا في صنع رموزه المبتكرة يقول الحارثي: بلا شك هناك نجاحات كبيرة حققها الشاعر العُماني في استخدام الرمز، وفي تقديري أن نجاح الشاعر في استخدام الرمز من عدمه مرتبط إلى حد كبير بدرجة تحقيق الهدف من استخدامه، وإغراء المتلقي لبذل جهد موازٍ لجهد الشاعر في تلمس المعاني وسبر أغوارها وتحقيق وحدة التأثر الجمالي مع النص، أما الرمز الذي يستخدم بلا هدف أو لمجرد استخدام رمز دون أخذ السياق العام للنص والإطار المعرفي للرمز في الحسبان فإنه يعمل على تشويش العلاقة الذوقية بين حواس المتلقي وقوى عقله التحليلية وبالتالي يؤدي إلى تعكير صفاء تذوقه الجمالي للنص مما يُفقد النص تأثيره وطاقته التعبيرية فيتحول إلى مجرد استعراض لغوي لمجموعة متنوعة من الصور الذهنية غير المترابطة والمتقطعة الأوصال.
ويشير الشاعر ناصر الكلباني برأيه إلى الشاعر العُماني والرموز التي استقاها وجعلها واضحة المعالم في قصيدته وهنا يؤكد: لقد درج الشعراء العمانيون كغيرهم في مسار الرمز وتنوعت الرموز المستخدمة حسب البيئة الحياتية التي يعيش فيها الشاعر أو يقيم فيها كالبيئة البحرية ورموزها المائية المختلفة وبين رموز الصحراء وبين القرية والطبيعة الخلابة والمطر والغيوم والجبال وبين المدينة والتطور الثقافي والعمراني.
ويقول الكلباني: أرى من وجهة نظري برغم اختلاف البيئات التي أثّرت على الشاعر إلا أن الرمز في الشعر العُماني انقسم إلى قسمين، الأول (الرمز التقليدي) الذي قلّد فيه الشعراء العمانيون من سبقوهم من الشعراء في رموزهم وإسقاطاتها على الواقع والحياة سواءً أكان النص كلاسيكيًا أم حداثيًا، فتجد رمز المطر، الريح، البحر، الكون نفسه، النخيل رموز استقاها الشاعر العُماني ممن سبقوه، وربما أسقطها بنفس طريقة الشعراء الذين سبقوه. وهذا ما أقصده بالرمز التقليدي.
أما القسم الثاني فهو (الرمز المُبتكر)، وهو في رأيي أن الشاعر العُماني حاول أن يبتكر رموزه الخاصة بهِ من واقع معتقداته وقراءاته وبيئاته المختلفة، وأن الشاعر الحداثي هو الأقرب إلى ابتكار هذه الرموز، لكنني أرى أن الشاعر الحداثي في أحيانٍ كثيرةٍ عمد إلى (التّعمية) و(الغموض) ظانًا منه أنه يبتكر رموزه الخاصة، كما أن هناك فرقًا بين المصطلحات الثلاثة. وحول ما إذا نجح الشاعر العُماني أيضا في صنع رموزه المبتكرة نقول سواءً أكان الشاعر العُماني كلاسيكيًّا أو حداثيًّا أم بينهما، فإن له رموزه الخاصة به سواءً استقاها من التراث الشعري للذين سبقوه أم ابتكرها بنفسه، واستطاع أن يوصل فكرته للمتلقي بطريقةٍ ما أو بأخرى، وأنه استطاع أن يضع بصمته العُمانية الخاصة في ساحة الأدب والشعر، ولا ننكر أن الشاعر العُماني برموزه المتعددة كان له بالغ الأثر في مسيرة الشعر العالمي خاصة شعراء قصيدة النثر.
وثمة رأي يتوافق مع ما تم طرحه حول الرموز التي استقاها الشاعر العُماني وجعلها واضحة المعالم في قصيدته للشاعر علي حميد العلوي فيشير من خلاله إلى أن الرمز يُعدّ في القصيدة عمومًا سمة من سمات الحداثة، ووسيلة إيحائية لأن الشعر لا يُعلن عن الأشياء الواقعية بصورة نمطية مباشرة، بل يوحي بها بطريقة صورية إشارية.
وحول ما إذا نجح الشاعر العُماني أيضا في صنع رموزه المبتكرة يقول العلوي: لا غرو أن للبيئة الجغرافية العمانية المتنوعة المفردات أثرًا على المردود الإبداعي لدى الشاعر العُماني بشكل يجعل من الرمزية المكانية معينًا خصبًا يستقي منه إيحاءاته الشعرية وطاقاته الجمالية، ويصوغ رموزًا عدة، منها الديناميكية المستمرة للرمز الطبيعي ميّزته عن غيره من الرموز، كون قيمته الإبداعية غير ثابتة بل وقابلة للتطور. وهذا ما يفسر الميل الفطري لدى الشاعر العُماني إلى الرمز الطبيعي (القرية، الطين، الفلج، النخل، السفن، إلخ)، حيث استطاع أن يجسّد معانيَ جديدة تجاوزت حدود اللغة العادية، واتسام القصيدة العُمانية باتخاذ الرمز التراثي وسيلة تعبيرية، لاسيما أن التاريخ العماني زاخر بالأحداث والوقائع التاريخية البارزة التي أضْفت على النص الشعري أصالة وعراقة من خلال استثمارها وتوظيفها في القصيدة.
ومن بين الرموز أيضًا عدم إمكانية إلغاء الرمز الأسطوري من المعادلة، حيث اشتغل الشاعر العماني على تكييف الأسطورة بما يلائم مغزاه ويتناسب مع متطلبات الحداثة وإضافة إلى تحويل تقنيات الدراما والسيناريو إلى خطاب شعري، يسعني القول إن الشاعر العماني دأب كعادته في ابتكار رموزه الشعرية الموائمة لدلالات العصر الحديث، بما لا يحيد بالشعر عن جادّته ولا يمسّ برسالته التوصيلية، لذلك كان الرمز الخاص من صنع الشاعر العماني نفسه، إذْ تمخّض من تجربته الشخصية وعُرفت دلالته من خلال السياق والتجربة الشعرية.
وفي نهاية هذا التطواف المعرفي حول الرمز يقترب الشاعر حمزة البوسعيدي من الرموز التي استقاها الشاعر العُماني وجعلها واضحة المعالم في قصيدته، وهنا يقول: أَرَى شخصيًّا أنّ الرمز الشعري في القصيدةِ العربيّة الحديثَة وترٌ موسيقي عَذب كالخِمار الذِي يسترُ شيئًا ويُدركُ المتربّصونَ بِهِ بأن وراءَه كنزًا مَا ويُلقونَ التأويلَات كـل من زاوِيته، الأمرُ الذِي يوجد جمالًا فَوْقَ جمالٍ مُتصوّر وغير مُتصور، وتختلف الرمزيةُ باختلافِ التعبيرِ الكائنِ بالشَاعِر، وباختلافِ القاعِدة الثقافيّة والذوقيّة للقارئ كذلك، حيث تتسلسلُ مِنْهَا الرمزيّةُ المفهومةُ المعنَى بشكلٍ واضِح والأُخرَى الَتِي تحتاجُ لدقّ نواقيسِ المُخيلةِ العميقَة، فَقَد يستحضرُ الشاعِرُ فِي رمزيّاتهِ بُعدًا دينيًّا أو تاريخيًّا أو حتّى طبيعيّا أو أي أبعاد أُخرَى، وكلهُ يتوقفُ عَلَى كُنهِ تلكَ المشَاعر والأفكَار الَتِي تُسيطرُ عَلَى الشاعِر والمُتلقّي كذلك. وحول ما إذا نجح الشاعر العُماني أيضا في صنع رموزه المبتكرة يقول البوسعيدي: بالنَظرِ إلى بعضِ زوايَا الرمزيّة في الشعر العُمَاني، نجد بأنهُ قَد امتطَى جوَاد الرمز وأبدَع فِيهِ بشكلٍ سلسٍ عَلَى إيجاد تيارات عدّة من التأويلَات وقَادرٍ عَلَى قولِ نصوصٍ عدّة عجنهَا الشاعِرُ فِي نصّ شعريّ واحِد، وَالمُتتبعُ كذلك للسيرةِ الشعريةِ العمانية يجدُ استخدامًا كبيرًا للرمزِ الشعريّ المُتمثلِ في الرمز الصوفِي والرمزِ التاريخيّ كذلِك، واستخدامًا رائجًا أيضًا للرمز الطبيعيّ والأسطورِي، وقَد نجحَ الشاعِرُ العُمانِيّ فِي صنعِ رموزٍ شعريّة مُبتكرةٍ لاقَت ثباتًا واستخدامًا ورواجًا كجبلِ سمحَان مثلًا وتفَاصيلِ اللبَان عَلَى سبيل المِثَال بينَ فوحَانهِ واحتراقهِ وتجريحِ شجرهِ لاستخراجه، وهيَ الرؤية التي تتفقُ مع ضرورةِ الرمز لعكسِ خوالجِ الشَاعر، وَلَا ريبَ أن الشَاعرَ العُماني بطبيعتهِ مُرتبطٌ بالقصيدةِ باختلافِ مدارسهَا والتِي يكثفُ فِيهَا الرمزُ بشكلٍ جليّ.