محمد بن سعيد الفطيسي:مكافحة الإرهاب والالتزام بحقوق الإنسان أمران لا يتعارضان أبدا، على أنه وفي ذات الوقت يؤكد المنطق والواقع الأمني العملي في مختلف أنحاء العالم أن تحقيق تلك المواءمة بين متطلبات الأمن والالتزام بحقوق الإنسان يجب أن تتم وفق معطيات تأخذ بالاعتبار التحديات والتعقيدات المعترف بها من قبل أعلى المؤسسات الأممية والحقوقية مثل الأمم المتحدة فيما يتعلق بالالتزام بحقوق الإنسان في ظل مكافحة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية، فلا إفراط ولا تفريط في كلا الجانبين.وهو ما أكد عليه أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش بقوله "اسمحوا لي أن أكون واضحا منذ الوهلة الأولى فأقول: من أشد المسائل صعوبة وأكثرها طرحا للتحديات في عصرنا الراهن مسألة مكافحة التهديد العالمي الذي يشكله الإرهاب دون الإخلال بالتزامنا باحترام حقوق الإنسان، الإرهاب في جوهره إنكار لحقوق الإنسان، الإرهاب فعلا عدوان على أمننا وعلى إنسانيتنا ذاتها؛ على أنه لا ينبغي أن يسجن أحد دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة ونحن حينما نشمل حقوق الإنسان بالحماية، نعمل في نفس الوقت على التصدي للأسباب الجذرية للإرهاب"(1 )ومن وجهة نظري تمكنت هذه الكلمة من بناء مقاربة بين تلك الصعوبات والتحديات التي تواجه الأجهزة المعنية بمكافحة الإرهاب والتنظيمات الإرهابية في مختلف أنحاء العالم، فهو اعتراف من أعلى المؤسسات الأممية بتلك التعقيدات التي تواجه المؤسسات المعنية بمكافحة الإرهاب، وفي ذات الوقت أكدت على أهمية الالتزام أن تبقى تلك السياسات الجنائية والتوجهات الأمنية في نطاق حماية الحقوق والحريات الإنسانية؛ لأن أهم هدف من أهداف مكافحة الإرهاب المحافظة على أمن الإنسان بمختلف أشكاله والذي لا يمكن أن يتحقق إلا بحصول ذلك الكائن على حقوقه وحريته وأمنه وكرامته.وإن كان من غير المقبول التعدي على حقوق الإنسان وكرامته تعسفا لتحقيق متطلبات الأمن، وبمعنى آخر اتخاذ الأمن كشماعة للتعدي على حقوق الإنسان ففي ذات الوقت يجيز "القانون الدولي لحقوق الإنسان نفسه للدول الحد من بعض حقوق الإنسان وحريات أشخاص معينة، وتشمل هذه الحقوق الحق في الحرية والخصوصية وحرية التنقل وتكوين الجمعيات والتعبير بشرط موافقتها لمعايير محددة دوليا ومعترف بها قانونا مثل "السعي لتحقيق غرض مشروع مثل حماية الأمن القومي أو السلامة العامة أو حقوق الإنسان أو حريات الآخرين، وأن تكون حتمية في المجتمع الديموقراطي ومتسقة مع الأهداف المعلنة" وهو ما يؤكد كذلك أن حقوق الإنسان ليست مطلقة دون قيود تنطلق من ذات الإطار الإنساني العام وهو المحافظة على حقوق الإنسان نفسها (2 ).وإن كانت المؤسسات الأمنية مطالبة باحترام حقوق الإنسان في الإجراءات والسياسات المتعلقة بمكافحة الجرائم عموما وجرائم الإرهاب على وجه الخصوص، فإن مؤسسات حقوق الإنسان هي الأخرى تُعد جزءا لا يتجزأ من المساهمين في تحقيق الأمن والاستقرار الوطني والدولي؛ وبالتالي فإنها مطالبة بضرورة التعاون مع الأجهزة الأمنية و"الأخذ في الاعتبار متطلبات الأمن بما لا يتعارض مع احترام حقوق الإنسان، والتأكيد على أن مقتضيات الأمن تهم جميع الأطراف وليس فقط الأجهزة الأمنية؛ لأن تهديدات الأمن هي أيضا مهددات لحق الإنسان في الأمن وحقه في الحياة."(3 )على ضوء ذلك اتخذت جميع الدول في حربها على الإرهاب اتجاهات مختلفة أغلبها مزج بين التوجهات الأمنية والعسكرية وتطبيقات العدالة الجنائية، صحيح أن بعض تلك الدول طغى عليها جانب على حساب آخر كما هو حال الولايات المتحدة الأميركية والتي اعتمدت على الجانب العسكري أو الحربي بدرجة كبيرة على حساب اتجاهات العدالة الجنائية، بينما اتجهت دول أخرى إلى تغليب أساليب العدالة الجنائية على حساب التوجهات العسكرية والأمنية كما هو حال سلطنة عمان (4 )وتعد سلطنة عمان من الدول القلائل على مستوى العالم التي اعتمدت بشكل رئيسي على نموذج العدالة الجنائية المتوافقة مع الاتجاهات والأساليب الأمنية والإنسانية في الحرب على الإرهاب، ما يؤكد ذلك أنها ـ ولله الحمد ـ نالت المؤشر صفرا وفق المؤشر العالمي للإرهاب في الفترة من 2013-2020، أضف إلى ذلك وهو الأهم، أقصد اختيار العديد من المعتقلين الدوليين لسلطنة عمان لتكون محل إقامتهم المؤقتة بعد الإفراج عنهم، وهو جانب يؤكد التعامل الإنساني للدولة العمانية ممثلة بأجهزتها المعنية مع مختلف القضايا المتعلقة بمكافحة الإرهاب وعلى رأسها حقوق الإنسان، كما أن هناك جوانب أخرى تؤكد تغليب التوجُّهات الإنسانية والجنائية على الأساليب الأمنية والعسكرية في تعامل المؤسسات الأمنية العمانية مع معظم التوجُّهات والسياسات المتعلقة بمكافحة الإرهاب وغيرها من القضايا ذات العلاقة.في شهر مارس من العام 2020 أصدر حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق "أعزَّه الله" المرسوم السلطاني رقم (4) الخاص بإصدار قانون جهاز الأمن الداخلي، وتعد جوانب مكافحة الإرهاب من اختصاصاته ومهامه الأصيلة كما نصَّت عليها المادة السابعة البند الرابع، مع التأكيد على أن هذا الاختصاص الأصيل للجهاز يتم بالتعاون والتنسيق والتكامل مع بقية المؤسسات الوطنية والدولية ذات الصلة والاختصاص بمكافحة الإرهاب وأنشطته المساندة، بالإضافة إلى بقية المؤسسات والقطاعات المدنية والخاصة التي يمكن أن تسهم في تحقيق متطلبات الأمن والاستقرار، وهو ما نصَّت عليه المادة رقم (3) من قانون جهاز الأمن الداخلي.وكما هو حال أغلب القوانين المشابهة، ركز هذا القانون على الجوانب الإدارية والمالية للجهاز كما هو واضح من المواد(14-26)، مفسحا المجال لبقية القوانين ذات العلاقة بمكافحة الإرهاب للتعامل الموضوعي والإجرائي مع الجرائم مثل قانون مكافحة الإرهاب رقم 8 لسنة 2007 ( 5) والذي كان لنا حوله دراسة محكمة متكاملة توصلت إلى العديد من النتائج والتوصيات، كذلك قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (30) لسنة 2016 وقانون الجزاء رقم (7) لسنة 2018.إذًا نحن أمام قانون مثل بقية القوانين في السلطنة لا يمكن أن يتعارض مع النظام الأساسي للدولة رقم (6) لسنة 2021، بما يحمله هذا الأخير من ممكنات والتزامات متعلقة بحماية حقوق الإنسان وكرامته والتزام الدولة بكامل مؤسساتها وأجهزتها بحماية تلك الحقوق (م 18، والمواد 21-47 من النظام الأساسي للدولة) ولا يعني استقلاله كمؤسسة سيادية وتبعيته لجلالة السلطان مباشرة إلا تعزيزا لتلك الرقابة والمحاسبة المباشرة التي تؤكد على حرص السلطنة وجلالته "أعزَّه الله" على المحافظة على حقوق الإنسان في مختلف السياسات والتوجُّهات التي يضطلع بها الجهاز ومن ضمنها جوانب مكافحة الإرهاب الذي هو بلا شك أي الإرهاب إنكار لحقوق الإنسان وعدوان على الإنسانية نفسها.وكحال بقية القوانين المتعلقة بالأجهزة الأمنية والاستخباراتية والعسكرية في مختلف الأنظمة السياسية في العالم بلا استثناء (6 )، من الطبيعي والمنطقي أن تُعد أنشطتها ومنتسبوها ومقارها ووثائقها وممتلكاتها وحساباتها، وكما هو واضح من المادة الخامسة من قانون جهاز الأمن الداخلي" من أسرار الأمن الوطني التي يحظر إفشاؤها لغير المصرح لهم سواء إلا بموافقة كتابية من الرئيس.وهذا الأمر ـ بلا شك ـ أمر قانوني ومفترض بكل تأكيد، فهي مؤسسة تفرض طبيعة عملها أن تتحصن بقوانين السرية الحميدة التي تحفظ لها كمؤسسة ولأمن وطنها ومواطنيها خصوصية المعلومات والوثائق والأنشطة المتعلقة بالأمن وأسرار السياسات العليا للدولة أو أسرار الدفاع من التسريب أو النشر وإلا تعرض الأمن الوطني للانتهاك، وهذا الأمر لا يتعارض أبدا مع القوانين الدولية والإنسانية، وفي نهاية المطاف تخضع تلك الأنشطة السرية من حيث التزامها بحقوق الإنسان للنظام الأساسي للدولة، كما أن سلطنة عمان ـ ورغم خصوصية تلك المؤسسات ـ تعمل في إطار قانوني يحترم أحكام القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، والمواثيق والمعاهدات الدولية التي انضمت إليها.إن كان من توصيات يمكن التأكيد عليها في هذا السياق، فهي أهمية تعزيز مكانة حقوق الإنسان في أي قانون وطني قائم أو قادم، سواء تعلق ذلك القانون بمكافحة الجرائم عموما أو مكافحة الإرهاب على وجه الخصوص، مع ضرورة تكامل وتمكين دور اللجنة العمانية لحقوق الإنسان في تعزيز هذا الجانب مع المؤسسات المعنية بحفظ الأمن الوطني، يضاف إلى ذلك أهمية التقارب الإنساني وتعزيز الثقة بين المؤسسات الأمنية والسكان؛ لأن ذلك كفيل بالتعاون على تحقيق متطلبات الأمن وفي ذات الوقت التزامات تلك الأجهزة بمتطلبات حقوق الإنسان.ــــــــــــــــــــــــــــــــــمراجع1 ـ - أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 16/ 8/ 2018 على الرابط:https://www.un.org/sg/ar/content/sg/speeches/2018-08-16/combating-terrorism-and-human-rights2 ـ - ايدن ويلز، الدليل الاسترشادي لفهم الإشراف على أجهزة الاستخبارات، مركز جنيف للرقابة الديموقراطية على القوات المسلحة، ترجمة محمود السيد، 2010، ص 16 – 18 على الرابط:https://www.dcaf.ch/sites/default/files/publications/documents/Intelligence_Oversight.pdf3 ـ - متطلبات الأمن لا تتعارض مع احترام حقوق الإنسان، المؤتمر الدولي حول «تحديات الأمن وحقوق الإنسان في المنطقة العربية»، اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، قطر، 8 نوفمبر 20144 ـ - راجع بهذا الخصوص: محمد سعيد الفطيسي، مكافحة الإرهاب بين نموذج العدالة الجنائية، ونموذج الحرب: قراءة في العقلية العمانية والأميركية لمكافحة الإرهاب قبل وبعد أحداث سبتمبر 2001، مجلة الباحث الأكاديمي في العلوم القانونية والسياسية، معهد الحقوق والعلوم السياسية: الجزائر، ع(4) مارس / 2020 على الرابط:https://www.asjp.cerist.dz/en/article/1246165 ـ - محمد سعيد الفطيسي، قراءة تحليلية لقانون مكافحة الإرهاب العماني رقم 8/2007، مجلة المعهد، معهد العلمين للدراسات العليا، النجف الأشرف/العراق، ع(5) 2021، ص 333-3606 ـ - راجع المادة 70 من القانون رقم 100 لسنة 1971المتعلق بالمخابرات العامة المصرية، أيضا: مقتطفات من قانون الاستخبارات الأمنية الكندي، 1984، راجع موقع الإنترنت للجنة مراجعة الاستخبارات الأمنية (SIRC) على الرابط: www.sirc -csars.gc.ca