محمود عدلي الشريف:
ما زلناـ أيها الأحبةـ في استضافة الصحابي الجليل كعب بن عمرو الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ المكنى بـ(أبي اليسر).
وهو الصحابي الجليل الذي ساعدته الملائكة وجها لوجه وساندته حتى أثر العباس بن عبد المطلب، ويقال: إنه أسر العباس ونوفلًا وعقيلًا فقرنهم في حبل وأتى بهم رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلم) فقال له رسول اللَّه (صلّى اللَّه عليه وسلم): لقد أعانك عليهم ملك كريم، وسماه رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلم مقرنا،وبنو سلمة يدّعون أن أبا اليسر كعب بن عمرو أسر العباس) (إمتاع الأسماع (12/ 167).
بل والمتتبع لقصة هذا الصحابي الجليل يجد أن فيه مميزات نادرة ـ وإن كانت قليلة ـ وعودًا إلى ما مر في الحلقة الأولى إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) خصه بدعوة نادرة جميلة حيث قال له:(اللهم أمتعنا به).
وإليكم ـ إخواني الكرام ـ تلك الدعوة الكريمة، حيث أخرج ابن كثير في (البداية والنهاية، ط: الفكر 4/ 194):(قالَ ابْنُ إسحاق: وحدثني بريدة بن سفيان الأسدي الْأَسْلَمِيُّ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي سَلِمَةَ عَنْ أبى اليسر كعب بن عمرو قال: إني لَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِخَيْبَرَ ذَاتَ عَشِيَّةٍ، إِذْ أَقْبَلَتْ غَنَمٌ لِرَجُلٍ مِنْ يَهُودَ تُرِيدُ حِصْنَهُمْ، وَنَحْنُ مُحَاصِرُوهُمْ،فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَنْ رَجُلٌ يُطْعِمُنَا مِنْ هَذِهِ الْغَنَمِ؟ قَالَ أَبُو اليسر: فَقُلْتُ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَافْعَلْ، قَالَ: فَخَرَجْتُ أَشْتَدُّ مِثْلَ الظَّلِيمِ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَىَّرَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مُوَلِّيًا قَالَ: اللَّهمّ أَمْتِعْنَا بِهِ،قَالَ: فَأَدْرَكْتُ الْغَنَمَ وَقَدْ دَخَلَتْ أَوَّلُهَا الْحِصْنَ، فَأَخَذْتُ شَاتَيْنِ مِنْ أُخْرَاهَا، فَاحْتَضَنْتُهُمَا تَحْتَ يَدِي، ثُمَّ جِئْتُ بِهِمَا أَشْتَدُّ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعِي شَيْءٌ حَتَّى أَلْقَيْتُهُمَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَذَبَحُوهُمَا فَأَكَلُوهُمَا،فَكَانَ أَبُو الْيَسَرِ مِنْ آخِرِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَوْتًا وَكَانَ إِذَا حَدَّثَ هَذَا الْحَدِيثَ بَكَى ثُمَّ قَالَ أُمْتِعُوا بِي لَعَمْرِي حَتَّى كنت من آخرهم)، وفي كتاب (من معارك الإسلام الفاصلة .. موسوعة الغزوات الكبرى 6/ 129):(فقيل لأبي اليسر: وكم كانوا؟ قال: كانوا عددًا كثيرًا فيقال:أين بقية الناس؟ فيقول في الرجيع بالمعسكر، فسمع أبو اليسر-فيما بعد وقد كبر وصار شيخًا كبيرًا- وهو يبكي في شيء غاظه من بعض ولده، فقال: لعمرى بقيت بعد أصحابي ومتّعوا بي وما أمتع بهم؟! لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم: اللهم متعنا به، فبقي فكان من آخرهم).
وعن قوته وجهاده وشجاعته وقوة بأسه وإقدامه ـ رضي الله تعالى عنه ـ فيما ذكر ابن هشام في (سيرته، ت: السقا 1/ 712):(أن منبه بن الحجاجبن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، قتله أبو اليسر، أخو بني سلمة، وابنه العاص بن منبه بن الحجاج، قتله علي بن أبي طالب فيما قاله ابن هشام)،وقد كان من كريم أخلاقه ـ رضي الله عنه ـ ما جاء في كتاب(الكنى والأسماء للدولابي 1/ 185):(عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ أَبِي الْيَسَرِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَطَلَبَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَتَاهُ فَقَالَ: لَقَدْ حَبَسْتَنِي وَجَلَسْتَ طَوِيلًا. قَالَ: إِنِّي اسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ أَتَيْتَنِي وَأَنَا مُعْسِرٌ فَقَالَ: آللَّهِ إِنَّكَ مُعْسِرٌ؟ قَالَ آللَّهِ إِنِّي مُعْسِرٌ. قَالَ: يَا غُلَامُ أَرِنِي الصَّحِيفَةَ فَمَحَاهَا ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَقُولُ: مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ إِذْ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ)،وعَنْ صَيْفِيٍّ وَهُوَ مَوْلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي الْيَسَرِ السُّلَمِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ يَدْعُو فَيَقُولُ:(اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْمَهْرَمِ وَالْهَرَمِ وَالْغَمِّ وَالتَّرَدِّي وَالْغَرَقِ وَالْحَرَقِ وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ يَتَخَبَّطَنِي الشَّيْطَانُ أَوْ أُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مُدْبِرًا أَوْ أَنْ أَمُوتَ لَدِيغًا).وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الْيَسَرِ، قَالَ:(كُنْتُ يَوْمًا أَلْزَمُ غَرِيمًا لِي فَرَآنِي رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ ـ فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا حَنَا كَفَّهُ ثُمَّ قَالَ:(مَنْ يُحِبُّ أَنْ يَسْتَظِلَّ مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ؟، قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قُلْنَا: نَحْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ:تُنْظِرُ غَرِيمًا أَوْ تَدَعُ الْمُعْسِرَ)(المسند للشاشي 3/ 401)، وما أجمل هذه الرواية ـ أيها الأحباب ـ التي جاءت في (صحيح مسلم 4/ 2301): (عن عبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي نَطْلُبُ الْعِلْمَ فِي هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ، قَبْلَ أَنْ يَهْلِكُوا، فَكَانَ أَوَّلُ مَنْ لَقِينَا أَبَا الْيَسَرِ، صَاحِبَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَعَهُ غُلَامٌ لَهُ، مَعَهُ ضِمَامَةٌ مِنْ صُحُفٍ، وَعَلَى أَبِي الْيَسَرِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، وَعَلَىغُلَامِهِ بُرْدَةٌ وَمَعَافِرِيَّ، فَقَالَ لَهُ أَبِي: يَا عَمِّ إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِكَ سَفْعَةً مِنْ غَضَبٍ، قَالَ: أَجَلْ، كَانَ لِي عَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ الْحَرَامِيِّ مَالٌ، فَأَتَيْتُ أَهْلَهُ، فَسَلَّمْتُ، فَقُلْتُ: ثَمَّ هُوَ؟ قَالُوا: لَا، فَخَرَجَ عَلَيَّ ابْنٌ لَهُ جَفْرٌ، فَقُلْتُ لَهُ: أَيْنَ أَبُوكَ؟ قَالَ: سَمِعَ صَوْتَكَ فَدَخَلَ أَرِيكَةَ أُمِّي، فَقُلْتُ: اخْرُجْ إِلَيَّ، فَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ أَنْتَ، فَخَرَجَ، فَقُلْتُ: مَا حَمَلَكَ عَلَى أَنِ اخْتَبَأْتَ مِنِّي؟ قَالَ: أَنَا، وَاللهِ أُحَدِّثُكَ، ثُمَّ لَا أَكْذِبُكَ، خَشِيتُ وَاللهِ أَنْ أُحَدِّثَكَ فَأَكْذِبَكَ، وَأَنْ أَعِدَكَ فَأُخْلِفَكَ، وَكُنْتَ صَاحِبَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَكُنْتُ وَاللهِ مُعْسِرًا قَالَ: قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قُلْتُ: آللَّهِ قَالَ: اللهِ قَالَ: فَأَتَى بِصَحِيفَتِهِ فَمَحَاهَا بِيَدِهِ، فَقَالَ: إِنْ وَجَدْتَ قَضَاءً فَاقْضِنِي، وَإِلَّا، أَنْتَ فِي حِلٍّ، فَأَشْهَدُ بَصَرُ عَيْنَيَّ هَاتَيْنِ - وَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى عَيْنَيْهِ - وَسَمْعُ أُذُنَيَّ هَاتَيْنِ، وَوَعَاهُ قَلْبِي هَذَا- وَأَشَارَ إِلَى مَنَاطِ قَلْبِهِ - رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَهُوَ يَقُولُ:مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ).
وكان ـ رضي الله عنه ـ عربيًا أصيلًا ذا صدق وأمانة، فقد أخرج البيهقي في (السنن الكبرى، ت: التركي 21/ 525):(عن الخطابِ بنِ صالِحٍ، عن أُمِّه قالَت:حدَّثَتنِى سَلَامَةُ بنتُ مُغَفَلٍ قالَت: كُنتُ لِلحُبابِ بنِ عمرٍو، فماتَ ولِي مِنهغُلامٌ، فقالَتِ امرأتُه: الانَ تُباعينَ في دَينِه، فأتَيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فذَكَرتُذَلِكَ له، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: مَن صاحِبُ تَرِكَةِ الحُبابِ بنِ عمرٍو؟، فقالوا:أخوه أبو اليَسَرِ كَعبُ بنُ عمرٍو، فدَعاه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم، فقالَ: لا تَبيعوهاوأعتِقوها، فإِذا سَمِعتُم برَقيقٍ قَد جاءَنِي فأْتونِي أُعَوِّضْكُم مِنها، ففَعَلوا، واختَلَفوافيما بَينَهُم بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالَ قَومٌ: إنَّ أُمَّ الوَلَدِ مَملوكَةٌ، لَولاذَلِكَ لَم يُعَوِّضْهُم رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنها. وقالَ بَعضُهُم: بَل هِي حُرَّةٌ قَد أعتَقَهارسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ففِي ذا كان الاختِلافُ،كما أخرَجَه أبو داودَ في كِتابِ (السنن):(وكان حكيمًا عالمًا ذا أدب وفقه)، وقد جاءت عنه في ذلك روايات كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، ولا يبقى إلا أن نذكر تاريخ وفاته ـ رضي الله عنه، ففي (المعجم الكبير للطبراني 19/ 164): (عن يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، قَالَ: تُوُفِّيَ أَبُو الْيَسَرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو سَنَةَ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ بِالْمَدِينَةِ)، وَيُقَالُ:(إِنَّهُ آخِرُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ)ـ كما في (البداية والنهاية، ط: إحياء التراث 8/ 85).
رحم الله الصحابي الجليل أبا اليسر كعب بن عمرو، وألحقنا به مع صحابة رسول الله أجمعين وهم مجتمعون برسولنا محمد (صلى الله عليه وسلم) .. آمين يا رب العالمين.

[email protected]*