الرواية ترصد أحوال المجتمع والحياة بينما القصة لا تعطي مساحة أكبر للتعبير عن النفس

حاوره: وحيد تاجا:
الأديب الفلسطيني محمود شقير من أهم كتاب القصة والرواية في الساحة الأدبية الفلسطينية بشكل خاص والعربية بشكل عام. صدر له ما يزيد عن 50 كتابا بين قصة ورواية وقصص للأطفال، كما قدّم للمسرح 6 اعمال، فيما ترجمت قصصه إلى أكثر من عشر لغات وصدرت مختارات من اعماله في عدة لغات حول العالم. اختيرت روايته “أنا وصديقي الحمار”، ضمن لائحة الشرف لأفضل 100 رواية في العالم لليافعين للعام 2018، كما وصلت روايته” مديح لنساء العائلة” إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر عام 2016. (الوطن) حاورته وناقشته حول كتاباته وروايته:
أنت معروف بكتاباتك القصصية، فلماذا تحوّلت إلى الرواية.. ؟
لم أتحوّل إلى كتابة الرواية بشكل نهائي، أي أنني ما زلت أكتب القصة. ولقد كانت لي محاولات في الكتابة الروائية منذ ابتدأت كتابة القصة، غير أن هذه المحاولات كانت قاصرة ولم أقدم على نشر أيّ منها.
بالطبع؛ ثمّة مساحة أكبر للتعبير عن النفس ولرصد أحوال المجتمع والحياة في الرواية أكثر مما هي الحال في القصة، ثم إنّني أجريت مناقلة في بعض الأساليب والتقنيات الفنيّة بين القصة والرواية؛ ذلك أنني جعلت كثيرًا من مشاهد رواياتي كما لو أنها متواليات قصصيّة، وجعلت بعض كتبي القصصيّة كما لو أنّها روايات مكتوبة على شكل قصص؛ حدث هذا في كتابي القصصي “احتمالات طفيفة” وفي كتابي “القدس وحدها هناك” وفي كتابي “مدينة الخسارات والرغبة” وحدث أخيرًا في كتابين يمكن أن نعدّهما تنويعًا قصصيًّا وروائيًّا على رواياتي السابقة؛ أقصد هنا: “سقوف الرغبة” و “حليب الضحى”.
علاقتك الحميمة بالمكان تبدو واضحة في كل ما كتبت تقريبا.. ومع هذا استوقفني اختيارك اسم “ تلك الأمكنة” لتحكي سيرتك الذاتية؟ ما سر العلاقة مع الأمكنة؟
من دون المكان لن نتمكن من العيش، فالمكان ملازم للإنسان من لحظة ولادته إلى لحظة موته. وللمكان حيّز كبير في قصصي ورواياتي، وحين تعلم أن مكاني الأوّل الذي أظل مشدودًا إليه مهما ابتعدت هو مدينة القدس التي تتعرض الآن للتهويد وللأسرلة فإنك ستدرك لماذا أهتمّ بالمكان، ولماذا أسعى دومًا إلى تثبيت الهوية الأصلية لهذا المكان بصفته مكانًا فلسطينيًّا أصيلًا بثقافة عربية فلسطينية إسلامية مسيحية.
الى أي مدى لعب الخيال دورًا في حكاية عشيرة العبد اللات خلال ملحمتك الروائية الثلاثية؟
كان للخيال دور أكيد في الروايات الثلاث، وإلا لافتقدت عنصرًا أساسيًّا من عناصر الإبداع. لكنّني لا أنكر حضور التجربة الفعلية في الروايات لعشيرة الشقيرات التي أنتمي إليها حين عاشت هذه العشيرة زمنًا في البرّيّة، ومن ثمّ حين انتقلت من البرّيّة إلى تخوم القدس. فقد استمعتُ كثيرًا إلى حكايات أمّي وأبي وجدّتي وأعمامي وأخوالي وبعض أقاربي عن حياتهم في البرّيّة، واختزنت كلّ ذلك في ذاكرتي إلى اللحظة المواتية، وحين بدأت الكتابة مستلهمًا تلك الحكايات فقد كان للخيال دور أساسي في اصطفاء المشاهد المشتقّة منها وفي خلق الشخصيّات.
كثير من شخصيات الروايات الثلاث سواء أكانت من النساء أو من الرجال جاءت على قدر من الغنى الذي لم يكن يشير إلى امرأة بعينها من عشيرتي أو إلى رجل بعينه من العشيرة، غير أن بعض صفات نساء من هذه العشيرة وبعض صفات رجال ظهرت في الروايات على هذا النحو أو ذاك.
أخيرًا؛ يمكن العثور في عشيرة العبد اللات التي تبوأت مكان الصدارة في الروايات الثلاث على بعض ملامح عشيرة الشقيرات، غير أنّ الأهمّ من ذلك أن العشيرة ترمز على نحو أو آخر إلى ما هو أشمل من ذلك؛ إلى بعض ملامح تجربة الشعب الفلسطيني في العصر الحديث.
* نادرًا ما نجد كاتبًا او روائيًّا يقوم بتذييل روايته بمسرد المصادر والمراجع ذات الصلة بها.. فهل نحن أمام رواية ملحميّة أم وثيقة تاريخية وشاهد على التحوّلات الاجتماعية في فلسطين؟
أكاد أجزم بأنّ كل روائي كتب عن مرحلة تاريخيّة بعيدة أو قريبة لا بدّ له من قراءة مصادر تاريخية عن تلك المرحلة، وقد يقوم بذكر هذه المصادر في آخر روايته وقد لا يذكرها، وذلك بحسب ما يراه مناسبًا، وبحسب نوعية استفادته من المادّة التاريخيّة.
فيما يخصّ رواياتي الثلاث، فقد وجدت أن تثبيت المصادر التي اطلعت عليها وأنا أكتب هذه الروايات قد يعود بالفائدة عليها وعلى القرّاء سواء بسواء، لجهة توسيع مدى الرؤية والاستزادة من الاطّلاع على الأجواء التي جرت في ظلّها أحداث هذه الروايات، وعلى الأفكار التي ظهرت وانتعشت في زمنها، وبالطبع فإنّ هذا لا يتنافى مع حقيقة الاستفادة من المادّة التاريخية في النصّ الروائي من دون أن يغرق النصّ في وقائع التاريخ، ولا يتنافى بل يعزّز كون الروايات الثلاث شاهدًا على التحوّلات الاجتماعيّة والسياسيّة في فلسطين.
لماذا ختمت الثلاثية بعنوان “ ظلال العائلة “؟ ما الذي اردته بالتحديد من ظلال .. المعنى الفيزيائي .. أم الصوفي لكلمة ظل و ظلال؟
قبل “ظلال العائلة” كان لي كتاب سيرة عن القدس هو “ظل آخر للمدينة”، وحين ترتبط كلمة “ظل” بالقدس التي تتعرّض للتهويد وللأسرلة، فإن هذه الكلمة تستدعي إلى أذهان القراء؛ المعاني القريبة للكلمة الدالة على نشدان الراحة والاسترخاء وتجنب الحرّ الشديد، أو الحنين إلى هذا الظلّ الآخر الذي تقصيه ممارسات المحتلين وعسفهم، وتستدعي في الوقت نفسه المعاني البعيدة ذات المنحى الصوفي؛ حيث يتوالد الظلّ من الضوء أو يخيّم الظلّ بعد انحسار الضوء، ويتعاقب جرّاء ذلك الليل والنهار؛ حين يخيّم السكون على الناس في الليل، وتدبّ فيهم الحركة والنشاط والسعي إلى الرزق في النهار.
ثم إنّ للظلّ حضورًا في حكاياتنا الشعبية، وقد استفدت من إحداها في الثلاثيّة، عن رجل خاف من ظلّه وراح يطعمه بيضة ورغيفًا من الخبز لعلّه يبتعد عنه فلم يبتعد.
رغم نجاح حالة الحبّ بين قيس وليلى؛ الذي توّج بارتباطهما في الثلاثية إلا أنّهما كانا أبعد مايكونان عن “ السعادة” حتى إنّك جعلت من قيس عقيمًا لاينجب .. لماذا؟
أظنّ أن لهذا الأمر علاقة بالواقع الذي استوحيتُ منه مادّة رواياتي الثلاث، فهذا الواقع لم يكن يوحي باكتمال أو بسعادة، وهو ما زال كذلك حتى الآن، ومن غير المعقول أن أخدّر وعي القارئ بالأوهام، ذلك أن شخوص رواياتي شأنهم في ذلك شأن أبناء الشعب الفلسطيني وبناته، وكذلك أبناء شعوبنا العربية يسيرون في حقول من شوك ومعاناة، ووسط كمائن مربكة ومفاجآت مفزعة، نحو مستقبل غير آمن ولا يوحي باطمئنان.
لذلك؛ كان هذا الحبّ الذي نشأ بين قيس؛ وهو شابّ خريج معهد معلّمين، لكنه كان مضطرًّا للعمل سائق سيارة أجرة، وبين ليلى؛ وهي شابّة خرّيجة جامعة مدرّسة في مدرسة أهلية، كانت علاقة الحبّ هذه كاشفة ليس لأنفس البشر وحسب بل للمرحلة الاجتماعية والسياسية نفسها، وهي كاشفة في الوقت نفسه لمقدار التضحية التي تقدّمها المرأة حين تحبّ رجلًا وتخلص له، إذ تتحدّى أهلها من أجل هذا الحبّ، وتتحدّى رغبتها المشروعة في الإنجاب وفي التمتّع بغريزة الأمومة، فتُخْلِصُ لرجلٍ عقيم، وهي التي تدفع الثمن في نهاية المطاف حين تتعرّض لاعتداء من متطرّف أصوليّ مُعتدٍ أثيم، وبرغم ذلك تحتمل المُصاب وتواصل رحلة الحياة من دون تردّد أو استنكاف.
لجأت الى تقنيات مختلفة .. تعدّد الرواة وتنويع الأصوات في السرد، واتكأت على الأحلام تارة، والرسائل تارة أخرى.ما الذي يفرض هذه التقنية او تلك ؟
ان طبيعة المادّة التي تتصدّى الرواية لرصدها هي التي تفرض شكلها الفني وأسلوب صياغتها على الرواية، وبالنظر إلى أن الثلاثيّة تعاطَتْ مع زمن امتدّ إلى أكثر من مئة عام، وبالنظر إلى أنّ تلك الأعوام كانت حافلة بأحداث جسام في الحالة الفلسطينية، فقد وجدتُ في تعدّد الرواة فرصة لاختزال حجم السرد الروائي إلى مدى معقول، ووجدت فيه ضرورة لعدم هيمنة سارد وحيد على متن السرد، بل ثمّة نوع من التوازن بين الساردين من الرجال والنساء إلى حدٍّ ما.
أمّا بخصوص التقنيات الأخرى كالأحلام مثلًا، فإنّني أجد في مادّة الأحلام فرصة للتعبير عن هواجس النفس البشريّة، ولتصوير حالات إنسانية واجتماعية وحضارية عبر الأحلام، وفيها فرصة للخيال الذي يصل بالسرد إلى تخوم الفانتازيا والواقعيّة السحريّة التي ظهرت في تراثنا الثقافي قبل الظهور في أدب أميركا اللاتينية، ونحن نعرف أنّ كتاب “ألف ليلة وليلة” كان من ضمن المؤثّرات الأكيدة التي أنجبت الواقعيّة السحريّة في أدب غارسيا ماركيز وغيره من أدباء تلك القارة.