ما من شك أن للعرب موسيقى غنية ومتنوعة وأن هذه الموسيقى قد اجتازت القرون الماضية لتصل إلينا متميزة عما سواها من موسيقى الشعوب الأخرى. لا شك كذلك أن الكتب القديمة تتضمن أخبارا عن الموسيقيين منذ صدر الإسلام مرورا بالعصور الأموية والعباسية والغرب الإسلامي إلى غاية العصر الحديث.
لكننا بالقياس مع مفهوم التاريخ كعلم وكمنهج نفتقد في ما تراكم من دراسات وتحقيقات ما يدعم وضوح هذا التاريخ٬ وصدقية وقائعه٬ إذ يمتزج الحكي أحيانا بالخرافة٬ ويحل التمجيد مكان التوصيف الموضوعي٬ وتحضرالانتقائية قبل الاشتمال. وفي هذا الإطار كذلك تظل الشواهد المتوفرة شحيحة لا تفي بالغرض العلمي٬ ولا تؤسس لتأريخ فعلي.
فالتاريخ هنا عملية معقدة لا يمكن تفكيكها إلا بمنهج. لكي نتحدث عن التاريخ يجب أن نتمكن من المعلومات الصحيحة عن أنماط الموسيقى العربية وآلاتها وكيف تطورت في الزمان والمكان٬ وكذاك كيف تفاعلت هذه الأنماط مع الثقافات المجاورة أو الموجودة عند الأقليات الأصلية في المجال الجغرافي العربي. لذلك وجب أن يتوفر للمؤرخين رصيد كبير من التدوينات وأن تتأتى للباحثين إمكانية مناقشة صحة النصوص القديمة من علتها٬ بل نستنجد كذلك بالتفكير المنطقي لمعرفة الحقيقة أو على الأقل الاقتراب منها. ولكي نوضح هذا الأمر لا بد من مقارنة حال التأريخ عندنا مع ما وصل إليه التأريخ الموسيقي عند الغرب. لكن الحد الفاصل ما بين التاريخ وما قبل التاريخ يرتبط بوجود الوثائق من عدمها. ويضاف إلى شح الوثائق امتزاج الوقائع بالخرافة٬
لذلك نحتاج إلى منهج لبناء تاريخ جديد للموسيقى العربية.

التأريخ الموسيقي في الحضارة الأوروبية
لقد توصلت الحضارة الأوروبية إلى صياغة تاريخ محكم الحلقات لموسيقاها عبر تحقيب مضبوط السنوات معزز بالوثائق والمدونات بالترقيم الموسيقي٬ ونشأت عندهم تخصصات دقيقة تهتم بكل حقبة٬ بل بكل موسيقي معروف٬ ولربما وصل التخصص إلى أبعد من ذلك٬ كأن يهتم المؤرخ الباحث مثلا بالفترة اللندنية لموزارت٬ أو بمراسلات بيتهوفن.
وفي هذا يمكن أن نعتبر بأن الموسيقى الكونية في نظر الأوروبيين لها ثلاث فترات كبرى هي:
ـما قبل التاريخ٬ حيث لا توجد الكتابة بل فقط بعض الشواهد الأركيولوجيا من رسوم ومنحوتات ومجسمات استخرجت من المعابد والمقابر ومن مجالات الحفريات. وقد تمتد هذه الفترة إلى غاية بعض التأويلات الممكنة لنصوص التوراة والإنجيل، والفترة القديمة٬ ولها علاقة مع التراث الإغريقي والروماني٬ وهي فترة وسيطة بين الإرهاصات الأولى للكتابة٬ والتدوين الفعلي
ـوفترة التاريخ وهي التي ظهر فيها الترقيم الموسيقي٬ وتواترت فيه الأناشيد الكنسية٬ بحيث توفر للباحثين تدريجيا رصيد من الوثائق التي مكنتهم من تسطير الوقائع بصفة موثوقة. وهذه الفترة التي ستتوضح بالفعل مع عصر النهضة في منتصف القرن الخامس عشر الميلادي، هي التي أسست لتاريخ الموسيقى الأوروبية ولكافة المناهج والعلوم المساعدة على تطورعلم التاريخ وارتقاء مناهجه إلى مراتب الدقة والتمحيص.

أسباب التباين والاختلاف
لكن المقارنة لا تستقيم بفعل اختلاف السياق في الحالتين: حالة الموسيقى الأوروبية وحالة الموسيقى العربية. وتعود أسباب التباين أساسا إلى ثلاثة عوامل عقائدية٬ وثقافية٬ وفكرية
1. في الجانب العقائدي
ـ كانت أوروبا المسيحية مضطرة لتقعيد الموسيقى بعدما هيمنت الكنيسة على التأليف الموسيقي لاستقطاب المؤمنين وتأجير كبار الموسيقيين٬ كما أن التدوين الموسيقي ساعد على تخليد صفحات من الموسيقى تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي.
ـ بينما ظل الجدال إلى غاية اليوم قائما مع اختلاف في الشدة والفتور٬ حول تحريم السماع أو تحليله٬ مما جعل الموسيقى لا تحضى بنفس الرعاية. وهذا لا يعني أننا نفضل نوعا من الرعاية على أخرى٬ بل نتناول هذه الخاصية ارتباطا لما أسهمت به الكنيسة في التدوين٬ انطلاقا من "النومات" مرورا بالتدوين المتناسب وصولا إلى التدوين في المدرج. وكذلك من مميزات هذه الرعاية أن توجه الملحنون إلى ابتداع أشكال من الغناء الديني من قبيل "الموتيت" و"الأوراتيو" و"القداس" وغير ذلك.
مالذي تبقى لنا نحن مثلا من "المئة صوت المختارة"٬ وهل يمكننا مثلا من استرجاع ما لحنه الموصلي أو ابن باجة؟ ليس لنا إلا التصديق بما نسبته الكتب لهؤلاء وغيرهم٬ وترديد نفس الحكاية إلى ما لا نهاية٬ دون أي منهج نقدي٬ بل لربما سنوصف بالعقوق إذا ما شككنا في القضية بمجملها.

2. في الجانب الثقافي
قد نفرض أن الموسيقى في العالم العالمي كانت في بعض الفترات لها قيمة فعلية في بعض البلاطات٬ مثل ما نسب لمكانة الشعراء والموسيقيين في العصر العباسي الأول وفي بلاط قرطبة٬ أوفي الأستانة خلال القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر. لكنها مجرد افتراضات تزكيها بعض الأخبار المتناثرة. أما الحقيقة هي أن المجتمعات العربية لم تعتبر يوما بأن مهنة الموسيقى تتعدى وظيفة اللهو والترفيه٬ ولا يجوز مقارنتها بالنتاجات الفكرية الشريفة كالأدب والفقه والفلسفة.
قد يقول قائل بأن الموسيقى في أوروبا كانت لها كذلك نفس الوظيفة٬ وكان الموسيقي مسخرا للكنيسة أو الأمير، وكانت مرتبته لا تختلف عن مرتبة الخدم. لقد كان ذلك بالفعل إلى غاية قرون التنوير٬ بعدها تحررت الموسيقى من الوصايتين ليرتقي الفنان إلى أعلى المراتب في المجتمع. وهذا ما ساعد بالفعل على الاهتمام الجدي بالموسيقى والموسيقيين.

3. في الجانب الفكري
استطاع الفكر الأوروبي أن يستبطن التطور ويؤمن به وهذا بالضبط هو محرك التاريخ٬ فليس هناك تاريخ لا يؤمن بالحركية٬ بينما نجد فينا من يريد استرجاع القديم ويمجده كمن يريد إيقاف عجلة التاريخ. أين يتجلى فكر التطور في الموسيقى الأوروبية ؟ إنه في تعاقب المدارس٬ في صناعة الآلات وفي تطور أدوات التأليف وخصوصا التعدد الصوتي وقوالب التأليف.
لقد عرف تاريخ الموسيقى في أوروبا مسارا تصاعديا منذ عصر النهضة الذي استقل قطار التاريخانية والاسترجاع الصوري للقيم الجمالية في الموروث الإغريقي الروماني. ويكاد الاتفاق أن يحصل بين المؤرخين حول تحقيب هذا التاريخ في مسار أفرز بالتتابع عصر الباروك من 1600 إلى 1750 والكلاسيكي من 1730 إلى 1830 و الرومانتيكي من 1820 إلى 1870 ومابعد الرومانتيكي من 1870 إلى 1900 والفترة الحديثة والمعاصرة ابتداء من القرن العشرين.
وبالموازاة مع هذا التحقيب توجد مسارات تاريخية أخرى ومنها ما يتعلق بالآلات المرجعية وبقوالب التأليف. ـ ونختزل النقطة الأولى في سلسلة من الإبدالات: فإذا كان العود هو المسيطر في عصر النهضة وبداية الباروك فقد لحق به الكلافسان قبل أن يستبدله الكلاسيكيون بالأركسترا السمفونية ويمجد الرومانتيكيون آلة البيانو. بالطبع ظل الأرغن سيد الموسيقى الدينية. ومن خلال الرصيد المكتوب لهذه الآلات نتوفر على إضاءات كثيرة حول تاريخ الموسيقى الأوروبية.
ـ قوالب التأليف كذلك خضعت لمبدأ التنامي والتركيب والتنويع حيث تم تطوير التعدد وهيكلة الأعمال في قوالب وبنيات مضبوطة استفادت من المتتاليات القديمة والتنويعات اللحنية والإيقاعية والتوافقية والمعرفة التدريجية للإمكانات التقنية والتعبيرية لكل آلة آلة من العزف المنفرد إلى التوزيع الأركسترالي الكامل مرورا بموسيقى الغرفة.
وهنا نشير إلى تظافر الجهود بين المؤرخين وعلماء الموسيقى بحيث يلتقي مجالاهما في هدف واحد هو تدعيم صحة الأحداث التاريخية وتأكيد نسبة المقطوعات إلى أصحابها بعد رصد المميزات الأسلوبية لكل ملحن ولكل عصر.

بين التاريخ وما قبله
يسود الاتفاق بين المؤرخين على أن الحد الفاصل بين التاريخ وما قبل التاريخ يكمن في وجود الوثائق والمدونات أو عدمها. فما قبل التاريخ هو على العموم تلك الفترة التي تمتد من ظهور الإنسان على وجه البسيطة وظهور الكتابة التي توثق لمظاهر من وجوده. هذا التعريف يطرح عدة مشاكل بخصوص تعيين الحدود الكرونولوجية.
وليس هذا هو المشكل الوحيد لأن حديثنا عن الموسيقى العربية يجعل إشكاليا الاستنجاد بالحفريات التي اكتشفت ببعض الدول العربية مثل مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين٬ فما مدى عروبة هذه البلاد في تلك الفترات الغارقة في القدم.
نحن الآن في وضع المؤرخين الأوروبيين إزاء تاريخهم الإغريقي الروماني بحيث لم يكونوا يتوفرون على وثائق ومدونات٬ تماما كما نحن لا نستطيع أن نذهب بالتاريخ لأبعد من القرن التاسع عشر مع تعرف الباحثين على أعلام من هذا القرن استمر عطاؤهم إلى بداية القرن العشرين٬ فالشيخ عبد الرحيم المسلوب مثلا عاش القرن التاسع عشر بكامله واستمرت حياته إلى غاية 1928، كما أن سلسلة التلمذة مكنتنا من معرفة هؤلاء الأعلام من خلال تلاميذهم٬ ونستطيع نسبة العديد من المقطوعات إلى أصحابها.
التاريخ يبدأ إذن في القرن التاسع عشر٬ بينما يمكن أن نعتبر بأن ما قبل التاريخ هي تلك الفترة الطويلة التي تبدأ بضعة قرون قبل الفتح الإسلامي٬ أي في جاهلية الجزيرة العربية. وقد يساند بعض الباحثين أن مفهوم العرب أوسع من ذلك بكثير٬ لكننا نرى أن التخصيص سيساعدنا على الوصول إلى أحسن النتائج. وتتباين كثافة المعلومات حول هذه الفترة بحيث تتمحور أهم المعلومات في العصر العباسي مع بروز كبار الفلاسفة الموسوعيين وحركة التدوين المهتمين بأخبار أهل الطرب (كتاب الأغاني نموذجا).

امتزاج التاريخ بالخرافة
ومن آفات التأريخ حضور الخرافة بشكل ملفت ممتزجة بالوقائع٬ ذلك أننا لا نكتفي بالإطناب وتمجيد بعض رموز الموسيقى العربية٬ بل نضيف حكايات غرائبية. وللتمثيل على هذه الخاصية نسوق قصة زرياب الذي نسج المؤرخون حوله أسطورة، فهو الموسيقي الموهوب الذي يكلم الجن ويبتدع الموسيقى الأندلسية من العدم ويحفظ عشرات الآلاف من الأشعار وهو من طور العود وعدل في طريقته وعدد أوتاره٬ إلى غير ذلك من المعلومات المتاحة لكل من يبحث في حياة هذا الموسيقي.
من حقنا أن نطرح عدة أسئلة تبدأ بالشك للوصول إلى ما يقترب من الحقيقة واليقين. وسنكتفي بالأسئلة التالية: هل لزرياب وجود فعلي؟ وما مقدار إسهامه في صياغة الموسيقى الأندلسية؟ وماهي حقيقة إضافته للوتر الخامس؟
أول بوادر الشك لدينا تبدأ حول حكاية زرياب مع أستاذه الموصلي في بلاط بغداد وغيرة الأستاذ من تلميذه٬ لم نجد ما يؤكد هذه الحكاية عند المؤلفين المعاصرين لهما٬ وأول ذكر للحكاية يعود إلى كتاب "نفح الطيب"٬ وقد
اعتمد فيه المقري على مصادر قبله لم يصلنا منها سوى القليل ك"المغرب" لابن سعيد و"مطمح الأنفس" لابن خاقان. وإذا كل هؤلاء لم يعاصروا زرياب فكيف يمكن الوثوق بما نقلوه لنا عنه ؟. توفي زرياب في 845 بينما توفي الفتح بن خاقان في 1134 وتوفي ابن سعيد الأندلسي في 1214 وعاش المقري بين 1591 و 1632.
أليس في هذا التباعد الزمني ما يدعونا إلى الشك في المعلومات المذكورة أو على الأقل عدم التصديق بها جملة وتفصيلا. ومن ذلك مثلا نقول بأنه لا يعقل أن تكون الأندلس بطبيعتها الخلابة وساكنتها المتنوعة عقيمة الفن تنتظر من يأتيها من بغداد ليصنع لها موسيقاها. أما حكاية الوتر الخامس الذي سيتوسط المثنى والمثلث فلا تخضع لأي منطق لدوزنة الأوتار كما أنها تتعارض مع نظرية الطبائع والطبوع التي تنبني على رقم أربعة.
إن التاريخ ليس ماض ميتا بل هو صيرورة وكل معرفة تاريخية ليست مجرد سرد للوقائع والأيام والدول بل هي نظر عقلي في أحوال الماضين وتعليل حدوثها وسبرها بمعيار العقل والحكمة في حين لا تتحدد دلالة التاريخ إلا وفق منهج علمي دقيق.
ومع ذلك لا نشك لا في وجود زرياب ولا في إسهامه٬ ولنا الحق في مناقشة ما يحكى عنه من أساطير٬ لأننا نرى أن الخرافة جزء من ثقافتنا وقد تستمر فينا حتى في الفترة المعاصرة نظرا لضعف الثقافة الموسيقية وغياب المنهج
وفي هذا الصدد هناك العديد من الملاحظات الهامة وهي أن لم يكن الغرض من هذه التساؤلات أن نهدم ما راكمهم المؤلفون العرب٬ جازاهم الله على ما وفروه لنا من تحقيقات٬ وليس ما نقدمه من نقد هو انبهار بالحضارة الغربية بل لقد كنا نصبو إلى إسهام نقدي يعيد النظر في كل ما لدينا من معلومات تاريخية أو شبه تاريخية، كما نعتقد كذلك أن الماضي لا قيمة له إذا لم نجد له تطبيقا في الحاضر واستشرافا للمستقبل، كما إن صياغة تاريخ للموسيقى العربية تمر عبر نبذ نزعة الإطناب والتمجيد والاقتصار على الوقائع والخصائص الموضوعية٬ كما يجب التخلص من عقدة التفوق التي نلاحظها دوما عند بعض الأقطار في المشرق العربي.
ونظرا لاتساع رقعة العالم العربي المرحلة الأولى لا بديل لنا من إنجاز مونوغرافيات كاملة لا تقتصر على أخبار الموسيقيين بل تمتد إلى الأرصدة الفنية. وبما أننا نعتبر أن التاريخ يبدأ في القرن التاسع عشر٬ فإن تظافر الجهود بين المختصين في مجالات علمية متكاملة قد تمكننا من صياغة التاريخ بصفة تراجعية. وهذه المجالات التي ينور بعضها البعض هي: علم التاريخ العام٬ التاريخ الاجتماعي٬ التحليل الموسيقي٬ اللسانيات٬ علم الآلات. وبذلك يصدق القول بأن الماضي موجود في الحاضر.

أحمد عيدون