د. رجب بن علي العويسي:
ينطلق طرحنا للموضوع من الميزة التنافسية للسلطنة الناتجة عن تنوع المقومات الطبيعية والتضاريسية الداعمة لرياضة المغامرة في البيئات البحرية والجبلية والصحراوية، والتي أصبحت تحظى باهتمام مختلف شرائح المجتمع وفئة الشباب بشكل خاص، كونها موروثا حضاريا مارسه الإنسان العماني من القدم، حتى أضحى ارتباطه بالبحر والجبل والصحراء وتعايشه مع مكوناتها، وفهمه لتفاصيلها، وإدراكه للظروف التي تشكل كل منها، جزءا من حياته اليومية، فتعامل معها بمهنية، وأتقن مهاراتها باحترافية، فرياضة التجديف والغوص، وتنوع المسارات الجبلية التي اختصرت الطرق واختزلت الوقت في التنقل بين البلدان، وقوافل الصحراء الممتدة، شواهد إثبات على ما أصلته في ذكرة الإنسان العماني، ليجد فيها شباب اليوم شغفهم في كسر حاجز الروتين، وحب المغامرة والاكتشاف، وبالتالي ما يشهده واقع رياضة المغامرات اليوم من حماس الشباب العماني المتقد، ورغبته في إعادة هذا الإرث العماني في ظل اهتمام العالم به ورعاية المنظمات الدولية الرسمية وغير الرسمية له للعديد من المسابقات الدولية التي تتخطى حدود المكان، بما يعنيه ذلك من أهمية التفكير في توسيع الخيارات والبدائل الوطنية التي تتيح الاستفادة القصوى من هذه الميزة التنافسية، وعبر تقليل الهدر الناتج عن تداخل الاختصاصات والمهام المرتبطة بتعدد الجهات المعنية برياضة المغامرات، والبحث عن موجِّهات أكثر ابتكارية، ونماذج تطبيقية، تعزز من تضامن الجهود، وتفاعل المؤسسات المعنية في بناء إطار وطني يضمن لهذا المجال المزيد من المهنية والرصانة والقوة، ويُوجِد نوعا من التجديد في التعامل مع متطلبات الواقع ومتغيراته. وأسهمت الأحداث الأخيرة المرتبطة بالسقوط الجبلي والغرق إلى المطالبة بإيجاد تشريعات وضوابط عملية، وسن القوانين المنظمة، وبناء المعايير الواضحة لممارسة رياضة المغامرات في البيئات البحرية والجبلية والصحراوية، في مجتمع فتي يشكل فيه الشباب أكثر من 21% من مجموع السكان العمانيين، وأكثر من 30% من مجموع عدد السكان، وما يملكه الشباب من حس المغامرة وشغف التحدي والاكتشاف، محطة لقراءة هذا الملف بصورة أكثر عمقا واتساعا، خصوصا مع التوجُّهات الوطنية نحو تعزيز فرص الاستفادة من هذا الملف وطرحه للاستثمار السياحي والاقتصادي والرياضي على حد سواء، لوضع عُمان في خارطة اقتصاد رياضة المغامرات.
ولمَّا كان تحقيق هذا الطموح، والتعاطي مع هذا الهدف، يستدعي تبنِّي أطر عمل وطنية تضمن الاستدامة والتوطين لرياضة المغامرة، وكفاءة التعاطي معها في ظل ما يكتنف هذه الرياضات من تخصصية، وما تتطلبه من مهنية واحترافية في العمل، لذلك يأتي طرح إيجاد مركز تدريب وطني متكامل متخصص في رياضة المغامرات، أحد أهم التوجُّهات التي يمكن أن تشكل تحوُّلا في جهود السلطنة نحو إحياء هذا الموروث الحضاري وعصرنته وفق معايير عالمية واستراتيجيات أداء وطنية، ويستفيد من الفرص الداخلية والخارجية في تعزيز مكوناته، وكفاءة أدواته، محطة جديدة لتعزيز مفهوم التنافسية، وجعل السلطنة بيت خبرة إقليميا في رياضة المغامرات، فمن جهة يمكن أن يسهم وجود المركز التدريبي لرياضة المغامرات إلى الاستفادة من كل الفرص والمحطات والمراكز التدريبية المؤسسية خصوصا ما يتعلق منها بوزارة الدفاع ومركز الأمن البحري وهيئة الدفاع المدني والإسعاف بشرطة عمان السلطانية، بالإضافة إلى الاستفادة من الخبرات والمبادرات الوطنية واهتمامات ذوي الاختصاص من أبناء المجتمع والمبادرين الشباب والمتقاعدين والهاوين لهذه الرياضات في مختلف ولايات السلطنة من خلال احتواء المركز لهذه الفئات، وتعريضها لتجارب وخبرات عالمية، تعمل على بناء شراكات عملية، وبيئات تدريبية نموذجية، بالإضافة إلى صقل مهارات الشباب العماني المتخصص في رياضة المغامرات واحتوائه، بالشكل الذي يسهم في رفع درجة الجاهزية الوطنية، وسقف التوقعات المرتبطة بنمو هذه الرياضة واتساع برامج عملها، وتعزيز دور القطاع الخاص والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وفي التوسع في الأنشطة التجارية والسياحية والتعليمية والتدريبية ذات العلاقة برياضة المغامرات لجذب السياح والهاوين الأجانب، وإقامة المناشط الدولية والمؤتمرات والفعاليات واللقاءات التدريبية التي تنشط حركة المركز، وتوفِّر الممكنات التمويلية والفنية الداعمة له.
وعليه، فإن من شأن وجود مركز متخصص بكامل أدواته وتجهيزاته، يرأسه مجلس إدارة كفء، وتديره كفاءات وطنية شابة مخلصة تحت مظلة وطنية عليا (مجلس الوزراء مثلا)، من شأنه أن يحتوي هذا التداخل في ملف الرياضات الجلية والبحرية الصحراوية بين أكثر من وزارة وهيئة حكومية (وزارة الثقافة والرياضة والشباب، ووزارة التراث والسياحة، وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار) وحضور هذا الاختصاص في وزارة الدفاع وهيئة الدفاع المدني والإسعاف، ويؤسس في الوقت نفسه لهُوية التدريب النموذجي المتخصص في السلطنة الذي يتناغم مع طبيعة البيئة العمانية، ويتكيف مع معطيات الواقع الوطني، ويستجيب للتحوُّلات والفرص المرغوب تحقيقها في هذا الشأن، في ظل استقطاب الهواة المحترفين وبناء قدرات المستجدين، ويصبح المركز بمثابة نواة وطنية وبيت خبرة عماني تتجسد فيه الصورة النموذجية والأدوات والآليات والأساليب التي اعتمدها الإنسان العماني في التعامل مع رياضة المغامرات والغوص والتجديف وركوب الأمواج والسفن الشراعية وغيرها، كما يؤسس لكل التفاصيل التي اعتمدها الإنسان العماني في المناطق الجبلية، والاكتشافات للكهوف، والمسارات الجبلية التي اعتمدها أبناء الولايات في اختصار المسافات بين ولاية وأخرى أو قرية وقرية أخرى، والميزة التي اعتمدها العمانيون في الترحال في الصحراء وتربية الإبل والرحلات الصحراوية الممتدة لمسافات طويلة، كل ذلك يؤسس لمرحلة متقدمة من العمل الوطني في الربط بين الأصالة والمعاصرة، واستدعاء فقه الأجداد وتجاربهم وخبراتهم الطويلة وتمرسهم في هذه الرياضات لإضافتها في ذاكرة الأجيال القادمة، وإحداث نوع من العصرنة والتمازج لها من خلال تعريضها لمواقف محاكاة جديدة ونماذج متجددة، وإضافة الأساليب والمعايير العالمية المعتمدة في هذا الشأن، وبالتالي يعزز هذا الأمر من هُوية التدريب لرياضة المغامرات ويؤصل نواته، ويؤسس لتوفير بيئات نموذجية، يتم خلالها تدريب الهواة العالميين وغيرهم ممن يسعون للاحترافية، أو كذلك من السياح ذوو الاهتمام بهذه الرياضات، ليؤدي المركز أدوارا استثنائية أكثر عمقا ومهنية، كونه مؤسسة تدريبية متكاملة لاستقطاب الكفاءات والخبرات العالمية، واحتواء الكفاءات الوطنية المتخصصة ذات الخبرة السابقة أو المستجدين في المجال، وما يتبع ذلك من تأسيس مناهج تعليمية وتدريبية، ورسم معايير واضحة وأطر واستراتيجيات، في ظل ما يطرحه المركز من برامج تدريبية متنوعة، ودورات متخصصة، وما يقوم به من تنشيط حركة التطوير والتجديد في رياضة المغامرات، أو يسهم به في تنشيط الحملات الاستكشافية والزيارات الميدانية في بحار عُمان وجبالها وصحرائها.
وبالتالي يقدم المركز بالإضافة إلى أدواره التدريبية أدوارا اقتصادية تعزز من توسيع الخيارات لدى الشباب العماني في فتح الأنشطة التجارية والاقتصادية والسياحية والخدمية ذات العلاقة، بل أيضا في تعزيز دور الشركات الوطنية في ابتكار أدوات أخرى داعمة لممارسة هذه الرياضات، ويعد إنتاجها من جديد بما يتناسب والصورة المأمولة من رياضة المغامرة، هذا الأمر من شأنه أن يوسع اتفاقيات الشراكات التخصصية والتفاهمات التدريبية مع المركز، ويسهم في استقطاب أفواج كبيرة من السياح والهواة حول العالم، وفق الدورات التدريبية التي يقيمها، مستفيدا من المواسم السياحية بالسلطنة مثل، خريف صلالة السياحي في فترة الصيف، وانخفاض درجات الحرارة في جبال الحجر الشرقي والغربي وصحراء الربع الخالي وآل وهيبة في فصل الشتاء، بما يتيح للمركز تقديم فرص تدريبية لمختلف الفئات من الجنسين، وأخرى تناسب الصغار والكبار، ودورات أخرى للمحترفين والمستجدين، ناهيك عن ما يسهم به من دور في تعزيز تفاعل الثقافات وحوار الحضارات من خلال إدماج الأفواج السياحية وذوي الاهتمام بهذا المجال من خارج السلطنة مع نظرائهم من داخل السلطنة في رياضة مغامرات تتمازج فيها فرص الاعتماد على النفس والعيش خارج البيئات المعتادة، فإن من شأن هذه المبادرات الجادة أن تسهم في تكوين نموذج وطني يقدِّم عُمان أمام العالم، ويروِّج لتضاريسها وبيئاتها التنافسية، بما يتيح للمركز توفير مراجعات أكثر إجرائية في الوصول إلى جودة البرامج التدريبية وكفاءتها التي تحقق أهدافه، وتؤسس نجاحاته، وتوجِّه بوصلة الاهتمام والأنظار نحوه، وتوفِّر أدوات قياس متعددة ونماذج مجربة وأنماط تدريبية مبتكرة في تحقيق أولويات التدريب على رياضة المغامرات والقيمة المضافة المراد تحقيقها على مستوى الفرد والمجتمع والوطن في منظوماته الاقتصادية والسياحية والتدريبية.
أخيرا، يبقى وضع هذه التوجُّهات في محط الأنظار وأولوية الاهتمام، في ظل تعدد المبررات والأولويات الوطنية التي أشرنا إلى بعضها، بحاجة اليوم إلى الإرادة الوطنية والمبادرة الجادة من القطاعات ذات العلاقة في استشعار هذا التحدي، والاستباقية لوضعه موضع التنفيذ، ورفع درجة التنسيق والتكامل بين الجهات المعنية العسكرية والأمنية والمدنية، والقطاع الخاص وشغف الشباب نحو إشهار رياضة المغامرات، ومنحها حضورها المناسب في التوجُّهات الوطنية القادمة، ومزيدا من الشراكة النوعية في تبنِّي سياسات وطنية لهيكلة المركز وبرامجه وآليات عمله، وتوفير الفرص الداعمة لنجاحه، ليكون مؤسسة وطنية للتدريب التخصصي لرياضة المغامرات بالمنطقة، ومحطة التقاء وطنية داخلية بين الجهات المعنية بهذا المجال للوصول إلى نموذج وطني للتدريب النوعي المتخصص، وهو الأمر الذي يمكن من خلاله تقديم حزم تدريبية وتعليمية احترافية مرنة، أكثر ارتباطا بالواقع واندماجا فيه، والتزاما بالضوابط والاشتراطات والمعايير، وتوفير بيئة تشريعية وتنظيمية ورقابية داعمة لرياضة المغامرات، وجودة عمليات التدريب والتأهيل فيها، ضامنة للكفاءة، محققة للإنتاجية، فهل ستتجه الأنظار في القريب العاجل إلى تجسيد هذا الكيان التدريبي الواعد على أرض الواقع؟