د. رجب بن علي العويسي:قد يعيش المسؤول الحكومي في دائرة تواصلية مغلقة، وهو أمر لا يهم المجتمع الوظيفي كثيرا، ولكن أن تتعمق هذه الدائرة في فلكه المهني وتعاطيه مع المهام والمسؤوليات الوظيفية واختصاصات المؤسسة التي يشرف عليها أو يعمل فيها، فهذا أمر يضع على فعله علامات استفهام كبرى، ويطرح على ممارساته الكثير من التساؤلات، ذلك أنه يمارس مهمة "رجل دولة" الذي كلفه واجبه الوظيفي، واستحقاقات المنصب الذي يشغله مسؤولية الوفاء بالتزاماته وتحقيق واجباته، وتوسيع الخيارات التي تصنع محطة التقاء، ومنصة ارتقاء مع أولويات الحكومة من جهة، واحتياجات المواطنين من جهة أخرى، وحجم أو مساحة التحول والابتكارية والتجديد والمهنية التي يصنعها في الهياكل التنظيمية والاختصاصات والأدوات والآليات وثقافة العمل المؤسسي من جهة ثالثة، ذلك أن هذه الدائرة المغلقة في إطارها الضيق وذاكرتها المختزلة قد لا يمكنها أن توفر له الفضاء الفكري الواسع، والمسار المعرفي الرصين، والتجارب والخبرات المجربة التي يوسع به مداركه، ويصقل تجاربه، ويبني أدواته، ويترجم خلالها خبراته، ليصنع من مهمته الصعبة نواتج تفوق التوقعات وتصنع القوة في المؤسسة.وبالتالي ما يثار حول طبيعة هذه الدائرة المغلقة ومكوِّناتها، والمدى الذي تستطيع أن تحققه في صناعة رجل المهمات الصعبة، وتمكينه من الوفاء بتعهداته والبر بقسمه، والطاعة فيما أوجبه عليه النظام الأساسي للدولة من الولاء لجلالة السلطان والطاعة له، ورعاية مصالح الوطن، وخدمة المواطنين، واحترام المهام والمسؤوليات، والصدق والأمانة في قيادة المؤسسة والإدارة الكفؤة لها، والوصول بها إلى تحقيق التنافسية والإنتاجية وبلوغ الغايات والأهداف الوطنية، بما تؤسسه في فقه المسؤول الحكومي من محكات في إنهاض قوة الإرادة لديه، وحس المسؤولية نحوها، وتنشيط روح الإخلاص في ذاته، ومصداقية التغيير المنهج والتصحيح المقنع، لتتجه إلى ما تضمه هذه الدائرة المغلة من تفاعلات، وتبرز حقيقة ما يجري في هذه الدائرة المغلقة مما يشاهده الجميع في ثقافة بعض المسؤولين وفكرهم وقدراتهم واستعداداتهم لتتبادر إلى الواقع جملة التساؤلات المطروحة، فـ: هل المسؤول الحكومي يقرأ ما يُكتب حول القطاع الذي يشرف عليه، قراءة مستديمة لا تتعلق بظرف معيَّن أو عنوان محدَّد، مستفيدا مما يطرح من منتج فكري رصين؟ وهل يتابع بصدق ما يستجد في الساحة الوطنية والإقليمية والدولية في مجالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والبيئية وغيرها من المؤثرات التي باتت تمثل تحديا لمنظومات العمل الوطنية الأخرى بصورة مباشرة أحيانا وغير مباشرة في أحايين كثيرة؟ ثم هل تعنيه قضايا المواطن اليومية وصرخاته المتواصلة واستغاثاته ومعاناته عبر القنوات الإعلامية، والمنصات الاجتماعية التواصلية والتفاعلية والتي أصبحت في غياهب الجب لا يسمعها أحد، وهل يدور في خلده التفكير في تبنِّي آليات واستراتيجيات عمل مؤسسية فاعلة تقلل من الفاقد والتكلفة والهدر بمختلف أنواعه وتعمل على التثمير في المورد البشري وإعادة هندسته في الواقع؟ وهل ما يتبناه من رأي أو يقدمه من تصور أو يدشنه من مبادرة أو يطرحه من أفكار أو يجيب عنه من تساؤلات، أو يعقب عليه من نقاشات تستشعر فيه هاجس الانتماء المؤسسي، وحس المواطنة وروح الإنسان، وصدق التوجُّه، ورقي الاهتمام بمصالح المواطن وأولويته في قاموسه وقراراته، مقرّبا لا مبعدا، موسّعا لا منغصا، ميسّرا لا معسّرا، معطاء لا ممسكا، حكيما لا متسرعا، رحيما لا متصلبا، يسعد بالتنفيذ، ويركز على ميدان الفعل وغراس المنجز أكثر من اهتمامه بالتغطية الإعلامية ـ رغم أهميتها ـ ويسطر أروع النماذج في الدفاع عن حقوق المواطن؛ لأنه حاضر في ذاته، وهو في كل خطواته يجسد روح الإنسان الواعي المثقف المخلص، وثقته بما يقدمه المواطن من أجل عُمان، عندما يجد الاحتواء والاهتمام، وتفتح أمامه نوافذ الأمل وفرص العمل، ويجد أن أحلامه وطموحاته وآماله ينظر إليها بعين الرعاية والحرص والمسؤولية؟إن قدرة المسؤول الحكومي على فهم قيادته للتغيير في إطار المنظومة المهنية وبيئة العمل والموارد البشرية، وقيادة الاستراتيجيات، وبناء الخطط، وتوظيف أفضل الممارسات، وتأصيل الهوية الذاتية، والممارسة التأملية، وصناعة الفرص، وخلق التحوُّلات الإيجابية في بيئة العمل؛ بحاجة إلى ممكنات، منها أن يؤمن ذاتيا بالتغيير، ويجسد الصورة التفاؤلية التي يعكسها في تصرفاته الذكية، وأعماله النوعية، وتأثيره الواسع، واحتوائه الفعلي للآخر بما يتركه من بصمة إنجاز، أو يصححه من مسار خاطئ، أو يعيد خلاله إنتاج أدوات الواقع والتثمير فيها بشكل أفضل، في ظل اعتراف ذاتي بالقصور، ورغبة إلى تحقيق الكمال البشرية، وعتاب مستمر للنفس، يضعه أمام تقييم مستمر لإنجازه، والوقت الذي يستقطعه من أجل العمل والإنتاج والمسؤولية، والاهتمام والحرص الذي يمنحه لبيئة العمل ولأبناء وطنه ممن يقعون ضمن دائرة مؤسسته، أو الشركاء الآخرين والمستهدفين من عمل هذه المؤسسة، ومعنى ذلك أن خروج المسؤول الحكومي من الدائرة الفكرية المغلقة التي يحيط بها نفسه، سوف تضمن خروجه من دائرة الأنا والذاتية إلى الآخر والجمعية، والاعتراف بالرأي والرأي الآخر في صناعة إنجاز يحقق الأهداف، ويرسم معالم القوة، في مواجهة حالة التخبط والعشوائية والقرارات الارتجالية والفردية، التي تعبِّر عن سلطوية الرأي، وعقم الفكر، وأيديولوجية الذات، وسادية التصرف، قائمة على الاتكالية والانتهازية والاستفزازية، وتصبح الدائرة المغلقة في مثل ذلك عقبة في وجه الابتكار والإبداع والتطوير، غير قادر على أن يصل من خلالها إلى آفاق أوسع أو يحلق بمؤسسته إلى فضاءات أرحب، أو يقدم إنجازات مشهودة يتميز في ابتكاريتها، ونضجها وارتباطها بالواقع، وقدرتها على صناعة الفارق، وتنشيط حركة المفاهيم المتجددة في مؤسسته لتعيد هندسة الأداء، وتصحيح سقطاته وانتكاساته التي اتجهت به إلى التأخر، وأضاعت الجهد، وخذلت القوة.وبالتالي فإن عظم الموقع الذي يشغله، والمسؤولية التي يتحملها، والواجبات التي يمارسها، ويستشعر فيها أمانة أخلاقية وإنسانية ووطنية جسيمة، يتطلب منه أن يحدد بوصلة اتجاهه ومسار عمله، ويؤطر منهجيات أدائه، ويدير وقته وجهدة بطريقة ذكية تحفظ الحق الوظيفي والأولويات المؤسسية، ويهيئ ظروفه بما يفتح الآمال لحياة المواطن، ويمسح الأحزان التي لطالما قصمت ظهره، ووأدت مهارته، وأضاعت حقه، حتى تراكمت ملفات التظلمات والشكاوى الإدارية وغيرها في المحاكم ذات الاختصاص، فإن هذ المعطيات بحاجة إلى مسؤول حكومي يعيش الواقع بكل تجلياته، يقرأ، يتابع، يفكر استراتيجيا، يصحح، ينتقد، يتحدث بلغة المؤشرات والإحصائيات والواقعية لا بسطحية العبارات ولباقة الكلمات. فرؤية عُمان 2040 ليست بحاجة إلى ظاهرة صوتية بقدر حاجتها إلى رجل المهمات الصعبة، من يلتزم المتابعة المسؤولة، والتخطيط السليم، والتنفيذ الأمين، والعمل المخلص، والروح الإيجابية الحاملة للواء الإصلاح، والماضية في نهج التواضع المهني والولاء الوطني، ليصنع في موقعه الذي يشغله قوة، وفي التزامه قدوه، وفي إخلاصه نقطة تحوُّل لبناء أفضل، وعمل متقن، وإنجاز مشهود، وعطاء لا ينقطع، ولسنا مع المسؤول الحكومي الذي ينتظر أن تقدم له المعلومة على طبق دون أن يبحث عنها، أو ينتظر صرخة مواطن عبر منصات التواصل الاجتماعي، يحكي قصته ومعاناته، حتى يتعاطف الناس معه، وعندها يهتز هاجسه، وتتحرك مشاعره ليوجه بكل برودة أعصابه من هم في مكتبه لاستصدار بيان عام: بل بحاجة إلى المسؤول الحكومي الذي يقف على هذه الخطوات بصورة استباقية، ويصنع حضوره في ميدان العمل مانعا من حدوث هذه الفجوات والفرقعات الإعلامية، من يصحح الخطأ ويعترف به، ويصنع الحل، ويتبنى أكثر من خيار، ويمنح المواطن فرصة أكبر في إنتاج الحلول، وإشراكه في تحقيق الهدف: شريك في المسؤولية، شريك في الإنجاز، شريك في العمل، شريك في النجاح.أخيرا، يبقى إسقاط هذه المعطيات اليوم على رؤية عُمان 2040، والدور المعقود على الجهاز الإداري للدولة، الذي بدأ التغيير به، وانطلقت بوصلة التوجُّه من خلاله، أن يقرأ المرحلة بفقه المرحلة، وأن يعيد إنتاجها بطريقة تحافظ على الثوابت العظيمة والفرص الكبيرة والأرصدة النوعية التي حفظت عُمان القوة والمبادئ والتقدم والازدهار، ويضيف إلى تلكم الأرصدة أبعادا أخرى تتطلبها المرحلة، مرحلة يقف على تفاصيلها وإنجازاتها بروح المواطنة وإخلاص المواطن، ومنهجيات العمل المؤسسي، وثقافة الأداء الكفء، وتوجيه شغف النفس، وحب التغيير ودافعية العمل، لصناعة إنجاز نوعي يقف على أولويات التحدي، ذلك أن الوقوف على مرتكزات الرؤية، والعمل على تحقيق محاورها وتنفيذ مبادراتها، وتجسيد مبادئ الحوكمة والنزاهة والمساءلة والمحاسبية والتقييم والمتابعة والشراكة الفاعلة والإنتاجية والأداء الكفء، والأمانة والمصداقية في العمل، بحاجة إلى نموذج عملي من القيادات الوطنية الكفؤة التي تعمل بإخلاص، وتقرأ بعمق، وتستشرف بواقعية، وتبني بمسؤولية، وتطمح بمهنية، وتراجع الأدوات والقوانين في استشعار لأهمية التغيير، ورفع مستوى الحافز، وتحصين النفس والأداء من كل السقطات، لتصنع في واقعها نموذجا رياديا يستشعر عظمة الأمانة التي تحملها من أجل عُمان وأبنائها؛ فهل سيظل المسؤول الحكومي بعد هذا في دائرته المغلقة التي لن تستوعب أحلام أبناء عُمان وطموحاتهم المتعاظمة؟ أم سيعيد توسيع دائرته في إطار الهدف والمسؤولية؟ واقع يحتاج إلى تأمل.