جودة مرسي:
عادت إلى الواجهة مرة أخرى إخفاقات المؤسسات الدولية في إيجاد الحلول للأزمات التي تتفاقم بين الدول بين الفينة والأخرى، ولم تمر سوى أيام قليلة على مقال نشر في هذه الزاوية منتصف الشهر الماضي تحدثت فيه إمكانية إيجاد حل لأزمة سد النهضة عن طريق المؤسسات الدولية، وتخوفت من أن تكون مصبوغة تبعا لمصالح الدول النافذة فيه. وبالفعل عجزت المؤسسات الدولية عن إيجاد حلول عاجلة لأزمة سد النهضة الذي أنشأته إثيوبيا ويهدد دولتي المصب مصر والسودان بالفقر المائي، وكانت الدولتان تأملان في صدور قرار من مجلس الأمن يلزم إثيوبيا باتخاذ إجراءات توافقية بين الدول الثلاث لا تحرم إثيوبيا من التنمية المنتظرة من بناء السد ولا تحرم شعبي مصر والسودان من مياه النيل، لكن عجز المؤسسة الدولية الأشهر كان عنوانا لعجزها سابقا عن إيجاد حلول لقضايا كبيرة مماثلة، خصوصا التي تهم وطننا العربي، وافتقدت المؤسسة للحلول العقلية العادلة لتعارضها مع مصالح من يمسكون ويتحكمون في صياغة قرارات المجلس.. وقد طرقنا ناقوس الخطر في هذا الأمر بمقال نشر في هذه الزاوية في العاشر من أغسطس العام 2017، تناولنا من خلاله صراع المياه في إفريقيا وأن القوى الكبرى عسكريا واقتصاديا سيطرت على المياه والموانئ الإفريقية، وهذه السيطرة ستخلف العديد من النزاعات، وهذا ما تأكد فعليا من قرار مجلس الأمن الذي اتخذه الأسبوع الماضي بتسويف القضية وإحالتها إلى الاتحاد الإفريقي؛ باعتباره هو المناط له هذه المشاكل؟! مما يعني ترجمة حرفية أن ننعى هذه المؤسسات الدولية التي تتحكم بها بعض الدول وتخطط مسارها تبعا لمصالحها؛ لأن القضية مطروحة في الاتحاد الإفريقي منذ بدايتها ولم تخرج بقرار تتفق عليه الدول الثلاث ولم ينصف إلا قرار بناء السد وملئه.
مشكلة سد النهضة هي نموذج للقوانين التي يدار بها النظام العالمي والتي جعلت الانعزالية والخوف تسيطر على الكثيرين من المظلومين، فأصبح التردد في اللجوء إلى المؤسسات الدولية هو السائد للمعرفة المسبقة بسياسة أصحاب الفيتو، بعد أن انفرطت حبات النظام الدولي وأصبح مآلها إلى طاولة المصالح، ولم يفلح أمام هذه المؤسسات التعلق الدولي والرهان على نزاهة القرارات فأصبحت أداة لإرهاب الدول أو بلاء على الشعوب التي قد لا يكون أمامها من مفر إلا اللجوء للاقتتال. وأذكر هنا أنه قبل حرب أكتوبر المجيدة التي انتصرت فيها اللحمة العربية المساندة لكل من مصر وسوريا، حين طالب الرئيس المصري الراحل أنور السادات المجتمع الدولي أن يكون السلام مقابل الأرض، ولم يعره أحد انتباها، فاتخذ قراره الشجاع بحرب أكتوبر وأدى الانتصار العربي الكبير إلى انصياع المجتمع الدولي والسعي إلى الجلوس على طاولة المفاوضات وطلب السلام، هذه هي اللغة التي يفهمها العالم، وهذا معناه أن المؤسسات الدولية التي يفترض فيها أن تكون واحة لحل الخلافات حادت عن طريقها، ولن تستجيب إلا لمنطق القوة، وهذا المنطق في حد ذاته سوف يفتح المجال لكثير من النزاعات في سائر الكرة الأرضية وحينها ستقترب الساعة وينشق القمر، ويكثر عدد الضحايا من الموت والجوع والفقر، وسيؤدي الخوف إلى حشر الأرواح في الحناجر. وستندثر مجتمعات وأقليات ويتيه الضعفاء؛ لأن مشكلة المياه عالمية وليست إقليمية، ودول كثيرة ستدخل في صراعات بسببها، وحينها لن نفرق بين الموت والحياة. إن المجتمع الدولي إذا لم يستفق ويغير القائمين عليه من سياسة منظماته الحالية، ويعودوا بهذه المؤسسات إلى هدفها السامي والحقيقي من إنشائها، وهو رفعة الإنسانية ورفع الظلم عن الشعوب، وإخماد الصراعات بين الدول في مهدها قبل أن تتفاقم وتتحول إلى صراعات مسلحة، فإن الوضع إلى مزيد من الأزمات والصراعات.
إن الإنسانية كانت ولا تزال هدفا ساميا لكل الشعوب، فلا ندنِّسها من أجل مصالح البعض من أصحاب الفيتو الذين رفعوا الرأسمالية والمصالح الاقتصادية فوق المنابر بدلا من العدل والمساواة، وإلا فإننا نقول حينها لا عزاء لهذه المؤسسات، وسنخفي رؤوسنا خوفا من التراشق بأحدث أسلحة الدمار.