نجوى عبداللطيف جناحي:(عنزة لو طارت) إنه مثل بحريني قديم مشهور، ولهذا المثل قصة ظريفة حدثت في الأربعينيات من القرن العشرين في قرية الحد، حيث كان يقف رجلان على شاطئ البحر، وينظران إلى جسم أسود يقف على صخرة كبيرة بعيدة تقع في عرض البحر تُسمَّى (فشت) فقال أحدهما إنه طائر (اللوه) وهو طائر بحري أسود اللون، أما الثاني فقال: لا بل هي عنزة سوداء اللون، أي غنمة فاستنكر الأول كيف تصل العنزة إلى هذا (الفشت) الذي يقع في وسط البحر؟ واحتد الجدال بينهما، وفجأة طار هذا الجسم الأسود في الهواء، فهتف الأول قائلا: أرأيت إنه طائر يطير، إنه طائر اللوه الأسود. فرد عليه الثاني بعناد: إنها عنزة ولو طارت. فذهبت هذه العبارة مثلًا يقال لكل من يتمسك برأيه عنادًا مهما كانت الأدلة شاهدة على خطأ رأيه. فالعناد هو مخالفة الحق رغم معرفته هكذا يعرف العناد.ما أسوأ هذه الصفة، فالشخص العنيد صعب المعشر، صعب القبول ممن حوله؛ لأنه يعرف الحقَّ ويخالفه، وتجده يرفض كل فكرة تعرض عليه، وبشكل مستمر حتى أن البعض يخرج عن السلطة أو المبادئ والقِيَم أو العقائد والأعراف السليمة، وعن كل ما ينبغي الالتزام به وكل الضوابط الاجتماعية. ولا يقتصر العناد في مجال التمسك بالآراء والأفكار، بل يتعدَّى ذلك إلى مخالفة الإنسان لمن حوله حتى في ممارسات الحياة اليومية فتجده رافضا لبيئته، وظروفه المعيشية، ويختلف مع أهله لمجرَّد فرض الرأي، كما أنه لا يقبل الأوامر والتوجيهات ويرفضها.والعنيد لا يعتز بهذه الصفة، ولا يصف نفسه بها، فهو يرى أنه صاحب رأي وهو يدافع عن رأيه!! وهو بذلك يبرر مواقفه الصارمة المتعجرفة العنيدة، تلك الصفة التي أشقى بها نفسه، وأشقى بها من حوله، فمهما صارحته ونبَّهته لمواقفه التي تدلُّ على عناده، إلا أنه لا يعترف بهذا العناد، بل يُجمله ويُسمِّيه ثقة بالنَّفْس أو اعتزازا بالرأي؛ ليصنع من نفسه بطلا مغوارا حتى تظن أن الشعرة التي تفصل بين العناد وبين الدفاع عن الرأي قد انقطعت عنده.وكثيرا ما نتساءل: هل العناد صفة وراثية يولد المرء بها؟ أم أن العناد صفة يكتسبها الإنسان من البيئة التي يتربَّى فيها؟! أم أن العناد مجرَّد طريقة في التعامل مع الناس نختارها، فنلجأ للعناد متى استدعى الموقف؟ تساؤلات قد نختلف في الإجابة عنها، ولكننا نتفق أن العناد صفة يصعب على صاحبها أن يتخلص منها. وسؤال آخر جدلي يفرض نفسه: هل العناد صفة محمودة أم مذمومة؟ وهنا سنختلف مرة أخرى في الإجابة عن هذا السؤال، فالبعض يُسمِّي العناد بمسمَّيات أخرى جميلة محمودة كالدفاع عن الرأي، وقوة الشخصية، ولكن في واقع الأمر يبقى العناد صفة غير مرغوبة من الآخرين.فالعنيد غالبا ما يكون فاشلا في علاقاته الاجتماعية، سواء في علاقته مع زوجته أو مع أبنائه أو مع باقي أفراد عائلته، وتجده محدود الصداقات والعلاقات مع الآخرين، إذ يصاحب صفة العناد مجموعة من السلوكيات غير المحبوبة وغير المقبولة من قبل الآخرين، فالعنيد لا يعترف بخطئه، فرأيه لا يقبل النقاش، ويشكك في الأدلة التي تدلُّ على خطئه حتى لو كانت مُسلَّمات، ويرفض أن يرى الأمور إلا من زاوية واحدة فقط، فتجده مُتصلِّب الرأي ولا يتقبل مقترحات الآخرين، فإن كان مسؤولا في عمله رفض آراء موظفيه، بل إنه يرفض توجيهات رؤسائه. فلا يكون محبوبا في مجال عمله، ولا يتقبل مقترحات زوجته وأبنائه وباقي أفراد أسرته، فيفرض عليهم ما لا يحبون، فيختار التخصُّصات الدراسية لهم، ويختار المسكن الذي يسكنونه دون أن يشاركهم في الرأي، بل وربما يفرض على أبنائه أزواجا وزوجات، فلا يراعي مشاعرهم ولا يراعي قناعاتهم. فيخضع أفراد أسرته لطاعته صاغرين رغما عنهم دون قناعة، أو يختار البعض التمرُّد والخروج عليه، وقد يجرُّهم هذا التمرُّد لمسارات خاطئة لا تحمد عقباها.والعنيد معزول عن من حوله، فلا يستشيره أحد، سواء أبناؤه أو مرؤوسوه في العمل أو أصدقاؤه، ولا يعرضون عليه مشاكلهم، ويكتمون الأسرار عنه حتى يصبح هو آخر من يعلم في كل شيء، فتضرب بينه وبين أقرب الناس إليه المسافات، خوفا من أن يفرض عليهم أفكاره وآراءه. والعنيد ليس لديه القدرة على الدخول في حوارات، فسرعان ما يثور ويغضب وينهي الحديث عندما يخالف في الرأي مهما كان موضوع الخلاف بسيطا.وبطبيعة الحال، يأبى العنيد أن يعتذر، فكلمة (آسف) أو (سامحني) ملغية من قاموسه وهو أمر طبيعي ما دام يرى أنه لا يخطئ. فتجده يخطئ في حق الآخرين، ويجرح مشاعرهم، بل وربما يسيء إليهم، لكنه يتعالى فلا يعتذر، ولا يدمل الجروح، ولا يجبر الخواطر ولا يواسي من أخطأ في حقهم، ويفشل في إصلاح علاقته مع الآخرين، فيزداد الناس بعدا عنه، حتى يكاد يكون وحيدا. والعنيد شديد الإحساس بالمظلومية، فهو يشعر ببُعد الناس عنه، وعدم قربهم منه، ولا يجد مبررا لذلك، فيشعر بالأسى والحزن والانكسار، فيدفع ثمن هذا العناد حزنًا وألمًا حتى يضل طريق السعادة، فاحذر كل الحذر من هذه الصفة، واستأصلها من نفسك قبل أن تستشري فيك وتصبح كالمرض العضال... ودمتم أبناء قومي سالمين. كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية متخصصة في التطوع والوقف الخيري [email protected] @Najwa.janahi