نجوى عبداللطيف جناحي:كُلُّنا نقرُّ بأنَّنا معشر النساء لا نعترف بأعمارنا، ونختزل من عمرنا الحقيقي أعواما ما استطعنا. إنَّنا نخجل من الاعتراف أمام الناس بعدد السنوات التي عشناها، والأهم أنَّنا لا نواجه أنفسنا بتلك السنوات ونتجاهلها، ونجتهد بكل الطرق لنخفي آثار السنين من على أجسادنا؛ كي لا تفضحنا أمام الآخرين فيُكشف عن عمرنا الحقيقي، نصبغ شعر رأسنا قبل مداهمة الشيب لشعرنا، فلا يعرف من حولنا متى بدأ الشيب يغزونا، ونغطِّي تجاعيد وجهنا بالألوان، وربما استعنَّا بوخزات إبر (البوتكس والفلرز) لمواجهة تلك التجاعيد، وقائمة طويلة من التدابير تنسينا أنَّنا نتقدم في العمر. وكم كنت أسأل من يكبرنني سِنًّا: لماذا تخشى المرأة مواجهة تلك الحقيقة المسلَّمة بها، وهي أنَّها كُلَّما أمدَّ الله في عمرها كبرت في السِّن؟ لماذا ترفض المرأة الاعتراف بعمرها الحقيقي؟! وظل سؤالي بلا جواب.وعلى مقعد الطائرة جلست ساعات طويلة أستمع لحديث امرأة استعذبته، حتى تمنَّيت أن تستمرَّ الطائرة في الدوران حول الأرض دورة كاملة علَّنِي أرتوي من حديثها، وكُلَّما سكتت استفززتها بسؤال لتسترسل في حديث آخر، كنت أقرأ وجهها، فعلامات الزمن تجود بالكلمات والحِكم، شيب شعرها، والجيوب المنتفخة أسفل العينين، وتجاعيد تلك الشفتين التي تعلَّقت عيناي بها لأرتوي من كلامها الجميل. وكان السؤال الذي يشغلني لِمَ لَمْ تتورع هذه المرأة عن إظهار علامات الزمن على وجهها؟ فاستجمعت شجاعتي وسألتها ذاك السؤال المعلَّق الذي يتحرج الجميع عن الإجابة عنه: لماذا تخجل المرأة من الاعتراف بعمرها؟فأجابت عن تلك الأحجية بجواب كان درسًا مُهمًّا بالنسبة لي فقالت:يوم عيد ميلادي الأربعين أمضيت ساعات طويلة منه أمام المرآة أناجيها، وأرثي شبابي، وأُفكر كيف أخفي علامات الزمن، وأحسب ما تبقَّى لي من عمر. كان يوما حزينا بالنسبة لي، حتى اضطررت لتناول حبَّة من دواء يساعدني على النوم، وعندما استيقظت في اليوم التالي كنت أحسن حالًا فاستعدت قواي، وجلست في شرفة غرفتي الصغيرة أشرب الشاي فاتخذت قرارًا مُهمًّا وهو أن أحب نفسي وأدللها، وأريح أعصابي، فأفعل كلَّ ما يسعدني، وأبتعد عن كلِّ ما يُوتِّر أعصابي، قرَّرت أن أكون فخورة بنفسي واثقة منها، ولا أنزعج من أي نقْصٍ لدي، فجميع البشر لديهم نواقص، والكمال لله، فلن أخجل من نقْصي، قرَّرت أن أتقبَّل نفسي كما أنا، فإن فعلت فسيتقبلني الآخرون. ومن يومها تغيَّرت لأكون أنا الأجمل.لم أعد أتحمس وأتوتَّر لأدافع عن موقفي أو عن رأيي، جنَّبت نفسي الدخول في صراعات مع الآخرين، وبدأت أشطب أسماء من قائمة أعدائي أو قائمة من يكرهونني أو لا يتقبلونني إلى قائمة جديدة، وهي قائمة المنسيين من ذاكرتي، فلم تعد لدي سوى قائمة واحدة، وهي قائمة أحبَّائي. وتعلمت فنَّ الاستماع، وفن التعبير عن المشاعر بتعابير الوجْه، وأدركت أنَّ لغة العيون ولغة تعابير الوجْه أبلغ من لغة اللسان، تجنَّبت أن أبدأ أنا بالحديث وأكون أنا المستمعة، فوجدت أنَّ من حولي أصبحوا أكثر شوقا لحديثي، ووجدت نفسي مضطرة للاسترسال في الحديث تلبية لرغبة المستمع، وبدأت أبني لي فِكرًا ورأيًا؛ كي لا يكون حديثي مجرَّد ثرثرة، حتى شعرت أنَّهم يعاملونني وكأنَّني حكيم الزمان.كنت أحرص على أن أكون هادئة النَّفْس ساكنة، كي أريح أعصابي، ولا أقبل أي استفزاز من الآخرين، فإذا بي أتحوَّل إلى سكن لهم، فهدوئي وابتسامتي تستقطبهم، ليستريحوا معي في عالم الهدوء، في جلسة لاستماع الموسيقى أو جلسة تأمل لا حديث فيها بل همس وارتخاء، واحتساء كوب من القهوة، فأجد في كل جلسة من يطلب مجالستي ليتعلم مني لغة الهدوء والسكينة.بدأت أتصرف وكأنَّني مهراجا يجود بالعطايا، وعطاياي مجرَّد نقود بسيطة، فعندما أدفع لبائع الخضار، أو لصاحب الدكان، أو لمحطة البترول، لا أتجادل مع البائع لتخفيض السعر، بل بالعكس أدفع مبلغا زهيدا زيادة على السعر المطلوب أولا أستلم المتبقي من المبلغ الذي دفعته، فإذا بهم يعاملونني وكأنَّني مهراجا زماني أو بلغة عصرنا (VIP) شخص مُهمٌّ، فأصبحت أحصل على خدمات مميزة منهم لم أحصل عليها عندما كنت أتجادل معهم لأوفر مبلغا زهيدا، وأصبحوا يعاملونني باحترام وتقدير ويتسابقون لخدمتي حتى يندهش باقي الزبائن، ويظنون أنَّني امرأة ذات مركز ومقام كبير.تجنَّبت الخوض في أعراض النَّاس، وتجنَّبت انتقادهم أو تجريحهم، وعلى العكس من ذلك علَّمت نفسي كيف أُعبِّر عن إعجابي بهم، وأبدعت في مدح الآخرين ورفع معنوياتهم، وإبداء إعجابي بملابسهم (هندامهم) أو قصة شعرهم أو مواقفهم، فأصبحت أرى تعابير الرِّضا والحُبِّ والسعادة في وجوههم، وبدأت أشعر أنَّهم يعجبون بكُلِّ شيء في شكلي، بثيابي، وبصوتي، وبملامح وجْهي، حتى أحببت نفسي من خلالهم، وتقبَّلت شكلي، وعشقت خطوط الزمن في وجْهي، وأصبحت أفخر بسنوات عمري التي عشتها من قبل ولم أفكر في إخفائها.تعلَّمت فنون تجاهل كُلِّ ما يزعجني، فأتجاهل تصرُّفات النَّاس التي تسيء لي، وأستغبى عندما ينتقدونني، وأتجاهل كُلَّ ما يزعجني من أصوات، وأغضُّ بصري عن كُلِّ المشاهد التي تثير مشاعر سلبية لدي، حتى كنت أظن أنَّهم سيصفونني بالبلاهة، لكنَّني فوجئت بأنَّني عندما كنت أتجاهل تلك المضايقات أنَّني كنت أترفَّع عن سفاسف الأمور فارتقيت عنهم، وزاد تقدير الناس لي وأصبحوا يعاملونني بتقدير واحترام أكثر من قبل حتى أحببت نفسي ووثَقْت بها.أصبحت أُخصِّص وقتا أطول من يومي لنفسي، أحرص على الرياضة، العناية بصحَّتي، الراحة، ووقتا طويلا للعبادة، واقتربت أكثر من الله فاستمتعت بالطاعات ومناجاة الله، فمردِّي الأخير له، وكُلُّ يوم أعيشه يُقرِّبني من لقائه، فأصبحت أستعد لهذا اللقاء بشوق، فكُلِّي ثقة أنَّ أولادي وأحبَّتي سينسونني بعد موتي بأيام قليلة، فلن أنفق غالبية وقتي لهم.لم أعد أنزعج من تجاعيد وجْهي وشيب شعري؛ لأنَّني أحببت نفسي فأحبَّني الآخرون كما أنا. ابنتي، النَّاس لن يتقبَّلوا أيَّ شيء فيك حتى لو كان جميلا، فرضاهم غاية لا تُدرك، فثقي بجمالك، وتقبَّلي شكلك كما هو يثق بك النَّاس ويتقبَّلونك كما أنتِ. استرخَيْتُ على الكرسي وأنا أُحدِّث نفسي: كلامها جميل مُقْنِع، لكنَّني أظن أنَّ النساء يَخَفْنَ من تقدُّم العمر خوفا من عدم قَبول أزواجهن لعلامات الزمن على وجوههن، أتراني صائبة؟!!! لست أدري. كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية متخصصة في التطوع والوقف الخيري [email protected] تويتر: @Najwa.janahi