الأمثال العربية تُروى كما قيلت، لا تغير ألفاظها بل تجري كما جاءت، دون تغيير في هيئتها فهي تُروَى ولا تُحكى. قال الزجاج في شرح أدب الكاتب: "والأمثال قد تخرج عن القياس، فتحكى كما سمعت، ولا يطرد فيها القياس، فتخرج عن طريقة الأمثال"، وقال المرزوقي :" أعطِ القوسَ باريها" تسكن ياؤه، وإن كان التحريك الأصل، لوقوع المثل في الأصل على ذلك ، وقال التبريزي في تهذيبه : تقول : "أطرَّي فإنك ناعلة" لما وقع في الأصل للمؤنث لم يُغَيّر من بعد وإِن ضُرِب للمذكر، فهو يضرب للمذكر والمؤنث والاثنين والجمع على لفظ التأنيث .
وحكاية مثلنا اليوم هي حكاية (الخيرِ المُضيّع بالطَّمع) وهو مثل عربي شهير يُضرب فيمن ضيع الفرصة وفوت الغنيمة، وحكى عن الأصمعي أنه يُضرَب لمنْ تركَ الشّيءَ في وقتِهِ. ( 1 ) فهذا المثل في الأصل خوطبت به امرَأة وهي دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زرارة * كانت زوجة لأبي شريح عمرو بن عُدَاس بن زيد بن عبد الله بن دارم ، وقيل إنها كانت ابنت عمه، وقيل أيضا أن أباها كان يأتي كسرى فيحبوه ويكسوه ويكرمه، وكان لملك الفرس هذا بنت تدعى دخترنوش ـ أي بنت الهنيء ـ فَعرب لقيط الاسم وسمى ابنته على اسمها وكانت ذات جمال أخّاذ و بهاء ودهاء( 2 ).
وهي القائلة في رثاء أبيها :
بَكَرَ النعيّ بِخيرِ خندَفَ كَهلُها وَشَبابُها
وَأَضرّها لِعدوّها وَأفكّها لِرقابِها
وَقريعِها وَنجيبها عندَ الوَغى وَشهابها
وَرئيسها عندَ المُلوكِ وَزين يومِ خِطابها
وَأتمّها نَسباً إِذا رجعَت إِلى أَنسابها
فَرعٌ عمودٌ للعشيرَةِ رافعٌ لِنِصابِها
كَالكوكبِ الدرّيّ في ظلماء لا يَخفى بِها
عبث الأغرُّ بِه وكلُ منيّةٍ لِكتابها
فَرّت بنو أسدٍ فرارَ الطيرِ عَن أَربابِها
لَم يَحفظوا حَسباً وَلم يَأووا لِفيء عقابِها
عَن خَيرِها نَسباً إِذا نُصّت إِلى أَنسابِها
وَهوازنٌ أصحابهم كَالفأرِ في أَذنابِها (3).
وبعدما أسن زوجها وأصبح عجوزاً، وكان أكثر قومه مالاً وأعظمهم شرفاً وكان رجلاً كبيراً وشهماً كريماً، فكان يغدق عليها طعاماً وشراباً ولبناً سائغاً للشاربين، ومالاً مع حِسن معاملة وإجلال، وكانَ يحبُّها ويكرمُها ويسخو عليها بمالهِ الوفير، لكنّها كرهت شيخوخته ، بعد أن أصبح قبيحاً رديء الفم وأبرص أبخر أعرج ، وقارنت بين حالها وحال صديقاتها اللائي تزوّجن بفتيانٍ يقاربوهنّ في العمر ، وتأسّفت على حالها وشبابها الذي ينفلتُ منها في ظلّ شيخٍ مسنِّ ، ونسيت في غمار هذه الحسرة ما يتمتّعُ به زوجُها من كرمٍ وشجاعةٍ وذكاء ووجاهة في قومه فضلا عن حبّه العظيم لها ، فلم تزل تولع به وتؤذيه وتسمعه ما يكره وتهجره، ففركته حتى طلّقها ـ أي ظلّت معه على سوء الطباع والخصام والنفور حتى طلّقها ـ ،( 4 ) وكان سبب الطلاق هو أنه وضع رأسه ذات يوم في حجرها فهي تُهمهُم وتُفلي في رأسه فأغفى ونام عمرو فَسال لعابه وهو بين النائم واليقظان فانتبه لِذلك فلقى دختنوس تَتأفف منه، فقال :
"أيسرك أن أفارقك وأطلقك ؟"
قالت: "نعم"
فَطلقها وكان ذَلِكَ في الصيف (5).
ثمّ تزوجت بعده بشابٍ جميل المُحيّا وسيماً وهو عُمير بن مَعبد من "آلِ زُرارة" لكنّه لم يكن كزوجها السابق في الشجاعة والمروءة وكريم الخصال(6). ولا وجهاً مشرقاً بالسرور ولا معاملة محفوفة بالإعزاز والإكرام .
وذات عام أجدبت الأرض وأصبحت قاحلة وكان الوقتُ صيفاً قائظاً فمرت إبل عمرو بن عدس عليها كأنها الليل من كثرتها فقالت دختنوس لخادمتها :
"ويلك انطلقي إلى أبي شريح ـ وكان عمرو يكنى بأبي شريح ـ فقولي له فليسقنا من اللبن".
فأتت الخادمة تطلب منه حَلُوبة فقالت له:
إن بنت عمك دختنوس تقول لك إسقِنا من لبنك
فقال لها عمرو:
قولي لها "في الصّيف ضيّعْتِ اللّبن" يا دختنوس
فمضى مثلاً مُتداولا بين العرب يضرب لمن ضيّع الفرصة، وفوّت الغنيمة، وقيل إن هذا المثل يروى هكذا :"الصيف ضيحت اللبن" بالحاء بدلاً من العين وهو من الضياح والضيح، وهو اللبن الممذوق (والمذقة شربة ممزوجة) الكثير الماء، يُريد ويقصد: الصيف أفسدت اللبن وحرمته نفسك،
ثم أرسل إليها بلقوحين من لبن، فقالت الخادمة:
أرسل إليكِ أبو شريح بِهذا
وهو يقول لكِ: في الصّيف ضيّعْتِ اللّبن يا دخنتوس.
فقالت دختنوس حين سمعت ذلك وضربَتْ يَدَها بخفة على منكب زوجها الشاب
"هذا ومَذْقُه خَيرٌ‏"‏ ( 7 )
تقصد وتعني بقولها هذا أن هذا الزوج مع عدم اللبن والمال خيرٌ وأفضل من زوجها السابق عمرو بن عدس - فذهبت كلماتها مثلاً مُتداولا بين العرب
توفيت عام 594 م نحو 30 سنة قبل الهـجرة.
فالأول يضرب لمن يطلب شيئاً قد فَوَّته على نفسه، والثاني يضرب لمن قَنَع باليسير إذا لم يجد الخطير‏.‏
وإنما خص الصيف لأن سؤالها الطلاقَ كان في الصيف، أو أن الرجل إذا لم يطرق ماشيته في الصيف كان مضيعاً لألبانها عند الحاجة‏.‏
المراجع والهوامش :
1- الأصمعي ، الأمثال 233
* دَخْتَنُوس بنت لقيط بن زُرارة الدارمِية ( ؟ - نَحو 30 ق هـ - ؟ - نَحو 594 م) شاعِرة جاهلية مُجيدة مُحسنة, من بني تميم ولها شِعْرٌ كثير منه الهجو ، والمديح ، والرّثاء
2- من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
3- من ويكيبيديا، الموسوعة الحرة
4- إبراهيم، شمس الدين باشا، معجم الأمثال العربية ، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية، الرياض ، ط1، ج1، 1423هـ / 2002م ، ص 200
5- كتاب الفاخر: ص 90
6- إبراهيم، شمس الدين باشا، ، مرجع سابق ، ص 202
7- إبراهيم، شمس الدين باشا، ، مرجع سابق
مراجع أخرى :
- الزجاج في شرح أدب الكاتب
- المرزوقي
- التبريزي في تهذيبة
- الصحاح للجواهري ، إسماعيل بن عماد ( ت 393هـ).

فهد بن محمود الرحبي