نجوى عبداللطيف جناحي:
يُعدُّ الوقف الخيري منظومة مالية اجتماعية تحمي المجتمع من تبعات الأزمات الاقتصادية، فلا تتأثر الخدمات الاجتماعية التي تقدم للناس، ولا تتضرر نتيجة تلك الأزمات. والوقف الخيري هو حبس أصل المال والحفاظ عليه من الهلاك، وتسبيل منفعته ليستفيد من هذا المال الناس والمجتمع بأكمله، إما بشكل مباشر كأن يأكل المحتاجون من ثمر المزرعة، أو يسكن الفقير في المسكن، أو يستثمر الوقف الخيري ويقدم ريعه لمساعدة الموقوف عليهم وفق شروط الواقف. ويظن البعض أن الوقف يكون على الفقراء والمحتاجين فقط، بل على العكس من ذلك، فقد أوقف السلف الصالح على خدمات المجتمع وتطوير البنية التحتية، فمن يقرأ تجارب الوقف السابقة يجد الكثير من الأفكار الإبداعية في تحديد الموقوف عليهم لخدمة أكبر شريحة من الناس ولتحقيق المنفعة، لذا سأستعرض في هذا المقال بعض الأفكار الإبداعية وكلي أمل أن يستفيد من هذه الأفكار من يفكر في وقف ماله:
الوقف على المهن وكسب الرزق: من الطبيعي أن يكون في كل مجتمع أعداد كبيرة من الناس يبحثون عن أعمال لكسب الرزق، فقد يكون مصدر كسب الرزق وظيفة، وقد يكون مهنة أو حرفة كمهنة الصيد أو الزراعة أو غيرها، ومن الأفكار الوقفية الإبداعية أن يوقف أدوات وأجهزة المهنة من سفن الصيد أو الآلات الزراعية كالمجارف، والجرارات، أو سيارات، وتخصص هذه الأجهزة لمن يبحث عن عمل ليتكسب بها ثم يعيدها للجهة التي تشرف على هذه الأدوات، فمثلا تنشأ شركة سيارات أجرة وقفية غير ربحية، فيستعير العاطل عن العمل السيارة ليتكسب منها في توصيل الناس أو توصيل الطلبات، ثم يعيدها نهاية اليوم مع وضع ضوابط لاستخدام هذه السيارة للحفاظ عليها، أو تنشأ مطابخ مطاعم وقفية غير ربحية مجهزة بالأفران والأواني، وجميع مستلزمات الطبخ، فيحجز العاطل عن العمل المطبخ لأوقات محددة ليطبخ أو يصنع المخللات، أو المعجنات، أو الخبز، ويقوم ببيع منتجاته، أو تنشأ شركة وقفية غير ربحية لتوفير سفن الصيد، فيستعيرها العاطل عن العمل لصيد السمك لعدة ساعات. وبطبيعة الحال يحتاج الأمر لوضع ضوابط لحماية أصول هذه الشركات الوقفية وحسن استخدامها.
الوقف على الأعراس والحفلات الاجتماعية: فالمناسبات الاجتماعية، خصوصا الأعراس، تكلف الكثير فيضطر الشباب لتأجيل الزواج نظرا لعجزهم عن توفير متطلباته. فمن الأفكار الوقفية الإبداعية إيجاد مؤسسات وقفية لتجهيز العروسين، فتوفر للعروس فستان الزفاف والحُلي والحذاء، وتوفر مُصفِّفة الشعر وغيرها، وكذلك توفر ملابس العريس، ثم تعاد هذه الملابس والحُلي للمؤسسة الوقفية، كما يمكن أن توفر مؤسسة وقفية غير ربحية قاعات الأفراح مجهزة بالطاولات والشاشات التي تكون كخلفية للعروس.
ومن الأفكار الوقفية التي أبهرتني وقف المساندة النفسية للمرضى، فيوظف الوقف ممرضين ومرشدين يساندون المريض نفسيا، فمثلا يُوظِّف مساندين نفسيين يتواصلون مع المرضى يُقدِّمون لهم المساعدة والبرامج والأنشطة التي تُدْخِل السعادة لقلوبهم وإدماجهم اجتماعيا، فمثلا يجلسون معهم فترات يشاركونهم ببعض ألعاب التسلية مع شيء من المرح والنُّكَت، أو يقضون وقتا في حديقة المستشفى ويشاركونهم ببعض الأنشطة الزراعية البسيطة، فإن مساعدة المريض على الحركة ورفع معنوياته يسهم في سرعة العلاج. وكان السلف يوقفون أموالهم لتوظيف مساندين للغرباء، فيقدمون العون للغريب بمساندته نفسيا ومواساته، وتسهيل اندماجه في المجتمع، ومساعدته للانخراط في الأنشطة الاجتماعية مما يخفف عنه آلام الغربة.
كما يُعدُّ الوقف النامي، أو الأوقاف المتوالية، من الأفكار الوقفية الإبداعية، وهي تخصيص وقف يستثمر يكون جزءا من ريعه لبناء أوقاف أخرى، كل واحدة منها يخصص منها جزء لبناء أوقاف أخرى، وهكذا. ويمكن تحديد كامل ريع الوقف الأساسي لبناء الأوقاف الأخرى، أو تحديد نسبة (ثابتة أو متغيرة) من كل وقف لبناء وقف آخر. فهو نماء متوالٍ ومتزايد أيض، أو صيانة الأوقاف الأخرى.
وللأوقاف دور مهم في تحسين شؤون المنطقة. فمن الجميل أن يوقف الواقفون ما يبرد الطريق للمارَّة ومن يمارس رياضة المشي، كالمظلات، وبخاخات المياه، وتشجير الطرقات، وتوفير الألعاب للأطفال ورصف الطرقات، وتزيين واجهات المنازل، وتجميل بعض الساحات في الأحياء، وإنارة الطرقات.
فكم نتمنى ألا يقتصر تفكير الواقف على وقف المساجد وتوفير الاحتياجات الأساسية للفقراء، بل يتسع لتوفير الاحتياجات والمنفعة لجميع الناس بإقامة مشاريع تنموية ومشاريع النفع العام. وممَّا لا شك فيه أن إنشاء مشاريع وقفية تطرح فرص عمل في المؤسسات الوقفية، فالإبداع في المشاريع الوقفية يذكرنا بالمَثَل الذي يقول "لا تطعمني سمكا، ولكن علمني كيف أصطاد"... ودمتم أبناء قومي سالمين.

كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
تويتر: @Najwa.janahi